جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج11 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


13 سورة الرعد - 17 - 26

أَنزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً فَسالَت أَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السيْلُ زَبَداً رّابِياً وَ مِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فى النّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِك يَضرِب اللّهُ الْحَقّ وَ الْبَطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَب جُفَاءً وَ أَمّا مَا يَنفَعُ النّاس فَيَمْكُث فى الأَرْضِ كَذَلِك يَضرِب اللّهُ الأَمْثَالَ (17) لِلّذِينَ استَجَابُوا لِرَبهِمُ الْحُسنى وَ الّذِينَ لَمْ يَستَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنّ لَهُم مّا فى الأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئك لهَُمْ سوءُ الحِْسابِ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَ بِئْس المِْهَادُ (18) أَ فَمَن يَعْلَمُ أَنّمَا أُنزِلَ إِلَيْك مِن رّبِّك الحَْقّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنمَا يَتَذَكّرُ أُولُوا الأَلْبَبِ (19) الّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَ لا يَنقُضونَ الْمِيثَقَ (20) وَ الّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصلَ وَ يخْشوْنَ رَبهُمْ وَ يخَافُونَ سوءَ الحِْسابِ (21) وَ الّذِينَ صبرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبهِمْ وَ أَقَامُوا الصلَوةَ وَ أَنفَقُوا مِمّا رَزَقْنَهُمْ سِرّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَءُونَ بِالحَْسنَةِ السيِّئَةَ أُولَئك لهَُمْ عُقْبى الدّارِ (22) جَنّت عَدْنٍ يَدْخُلُونهَا وَ مَن صلَحَ مِنْ ءَابَائهِمْ وَ أَزْوَجِهِمْ وَ ذُرِّيّتهِمْ وَ الْمَلَئكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيهِم مِّن كلِّ بَابٍ (23) سلَمٌ عَلَيْكم بِمَا صبرْتمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ (24) وَ الّذِينَ يَنقُضونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَقِهِ وَ يَقْطعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصلَ وَ يُفْسِدُونَ فى الأَرْضِ أُولَئك لهَُمُ اللّعْنَةُ وَ لهَُمْ سوءُ الدّارِ (25) اللّهُ يَبْسط الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالحَْيَوةِ الدّنْيَا وَ مَا الحَْيَوةُ الدّنْيَا فى الاَخِرَةِ إِلا مَتَعٌ (26)

بيان

لما أتم الحجة على المشركين في ذيل الآيات السابقة ثم أبان لهم الفرق الجلي بين الحق و الباطل و الفرق بين من يأخذ بهذا أو يتعاطى ذاك بقوله: "قل هل يستوي الأعمى و البصير أم هل تستوي الظلمات و النور" أخذ في البيان التفصيلي للفرق بين الطريقين طريق الحق الذي هو الإيمان بالله و العمل الصالح و طريق الباطل الذي هو الشرك و العمل السيىء و أهلهما الذين هم المؤمنون و المشركون، و أن للأولين السلام و عاقبة الدار و للآخرين اللعنة و لهم سوء الدار و الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر و بدأ سبحانه الكلام في ذلك كله بمثل يبين به حال الحق و الباطل و أثر كل منهما الخاص به ثم بنى الكلام على ذلك في وصف حال الطريقين و الفريقين.

قوله تعالى: "أنزل من السماء ماء" إلى آخر الآية قال في مجمع البيان،: الوادي سفح الجبل العظيم المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر، و منه اشتقاق الدية لأنه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل، و القدر اقتران الشيء بغيره من غير زيادة و لا نقصان و الوزن يزيد و ينقص فإذا كان مساويا فهو القدر، و قرأ الحسن بقدرها بسكون الدال، و هما لغتان يقال: أعطي قدر شبر و قدر شبر، و المصدر بالتخفيف لا غير.

قال: و الاحتمال رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل له، و يقال: علا صوته على فلان فاحتمله و لم يغضبه، و الزبد وضر الغليان و هو خبث الغليان و منه زبد القدر و زبد السيل.

و الجفاء ممدود مثل الغثاء و أصله الهمز يقال: جفأ الوادي جفاء قال أبو زيد: يقال: جفأت الرجل إذا صرعته و أجفأت القدر بزبدها إذا ألقيت زبدها عنها، قال الفراء: كل شيء ينضم بعضه إلى بعض فإنه يجيء على فعال مثل الحطام و القماش و الغثاء و الجفاء.

و الإيقاد إلقاء الحطب في النار استوقدت النار، و اتقدت و توقدت، و المتاع ما تمتعت به، و المكث السكون في المكان على مرور الزمان يقال: مكث و مكث - بفتح الكاف و ضمها - و تمكث أي تلبث.

انتهي.

و قال الراغب: الباطل نقيض الحق و هو ما لا ثبات له عند الفحص عنه قال تعالى: "ذلك بأن الله هو الحق و أن ما يدعون من دونه الباطل" و قد يقال ذلك في الاعتبار إلى المقال و الفعال يقال: بطل بطولا و بطلا بطلانا و أبطله غيره قال عز و جل: "و بطل ما كانوا يعملون" و قال: "لم تلبسون الحق بالباطل".

انتهى موضع الحاجة.

فبطلان الشيء هو أن يقدر للشيء نوع من الوجود ثم إذا طبق على الخارج لم يثبت على ما قدر و لم يطابقه الخارج و الحق بخلافه فالحق و الباطل يتصف بهما أولا الاعتقاد ثم غيره بعناية ما.



فالقول نحو السماء فوقنا و الأرض تحتنا يكون حقا لمطابقة الواقع إياه إذا فحص عنه و طبق عليه، و لقولنا: السماء تحتنا و الأرض فوقنا كان باطلا لعدم ثباته في الواقع على ما قدر له من الثبات، و الفعل يكون حقا إذا وقع على ما قدر له من الغاية أو الأمر كالأكل للشبع و السعي للرزق و شرب الدواء للصحة مثلا إذا أثر أثره و بلغ غرضه، و يكون باطلا إذا لم يقع على ما قدر عليه من الغاية أو الأمر و الشيء الموجود في الخارج حق من جهة أنه موجود كما اعتقد كوجود الحق تعالى، و الشيء غير الموجود و قد اعتقد له الوجود باطل و كذا لو كان موجودا لكن قدر له من خواص الوجود ما ليس له كتقدير الاستقلال و البقاء للموجود الممكن فالموجود الممكن باطل من جهة عدم الاستقلال أو البقاء المقدر له و إن كان حقا من جهة أصل الوجود قال: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.

و كل نعيم لا محالة زائل.

و الآية الكريمة من غرر الآيات القرآنية تبحث عن طبيعة الحق و الباطل فتصف بدء تكونهما و كيفية ظهورهما و الآثار الخاصة بكل منهما و سنة الله سبحانه الجارية في ذلك و لن تجد لسنة الله تحويلا و لن تجد لسنة الله تبديلا.

بين تعالى ذلك بمثل ضربه للناس، و ليس بمثلين كما قاله بعضهم و لا بثلاثة أمثال كما ذكره آخرون كما سنشير إليه إن شاء الله و إنما هو مثل واحد ينحل إلى أمثال فقال تعالى: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا" و قوله: "أنزل" فعل فاعله هو الله سبحانه لم يذكر لوضوحه، و تنكير "ماء" للدلالة على النوع و هو الماء الخالص الصافي يعني نفس الماء من غير أن يختلط بشيء أو يشوبه تغير، و تنكير "أودية" للدلالة على اختلافها في الكبر و الصغر و الطول و القصر و تغايرها في السعة و الوعي، و نسبة السيلان إلى الأودية نسبة مجازية نظير قولنا: جرى الميزاب و توصيف الزبد بالرابي لكونه طافيا يعلو سيل دائما و هذا كله بدلالة السياق، و إنما مثل بالسيل لأن احتمال الزبد الرابي فيه أظهر.

و المعنى: أنزل الله سبحانه من السماء و هي جهة العلو ماء بالأمطار فسالت الأدوية الواقعة في محل الأمطار المختلفة بالسعة و الضيق و الكبر و الصغر بقدرها أي كل بقدره الخاص به فالكبير بقدره و الصغير بقدره فاحتمل السيل الواقع في كل واحد من الأودية المختلفة زبدا طافيا عاليا هو الظاهر على الحس يستر الماء سترا.

ثم قال تعالى: "و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله" من نشوية و ما يوقدون عليه أنواع الفلزات و المواد الأرضية القابلة للإذابة المصوغة منها آلات الزينة و أمتعة الحياة التي يتمتع بها و المعنى و يخرج من الفلزات و المواد الأرضية التي يوقدون عليها في النار طلبا للزينة كالذهب و الفضة أو طلبا لمتاع كالحديد و غيره يتخذ منه الآلات و الأدوات، زبد مثل الزبد الذي يربو السيل يطفو على المادة المذابة و يعلوه.

ثم قال تعالى: "كذلك يضرب الله الحق و الباطل" أي يثبت الله الحق و الباطل نظير ما فعل في السيل و زبده و ما يوقدون عليه في النار و زبده.

فالمراد بالضرب - و الله أعلم - نوع من التثبيت من قبيل قولنا: ضربت الخيمة أي نصبتها و قوله: ضربت عليهم الذلة و المسكنة أي أوقعت و أثبتت و ضرب بينهم بسور أي أوجد و بني، و اضرب لهم طريقا في البحر أي افتح و ثبت و إلى هذا المعنى أيضا يعود ضرب المثل لأنه تثبيت و نصب لما يماثل الممثل حتى يتبين به حاله، و الجميع في الحقيقة من قبيل إطلاق الملزوم و إرادة اللازم فإن الضرب و هو إيقاع شيء على شيء بقوة و عنف لا ينفك عادة عن تثبيت أمر في ما وقع عليه الضرب كثبوت الوتد في الأرض بضرب المطرقة و حلول الألم في جسم الحيوان بضربه فقد أطلق الضرب و هو الملزوم و أريد التثبيت و هو الأمر اللازم.



و من هنا يظهر أن قول المفسرين إن في الجملة حذفا أو مجازا و التقدير كذلك يضرب الله مثل الحق و الباطل أو مثل الحق و مثل الباطل - على اختلاف تفسيرهم - في غير محله فإنه تكلف من غير موجب و لا دليل يدل عليه.

على أنه لو أريد به ذلك لكان موضعه المناسب له هو آخر الكلام و قد وقع فيه قوله تعالى: "كذلك يضرب الله الأمثال" و هو يغني عنه.

على أن ما ذكروه من المعنى يرجع إلى ما ذكرناه بالآخرة فإن كون حديث السيل و الزبد أو ما يوقد عليه و الزبد مثلا للحق و الباطل يوجب كون ثبوت الحق نظير ثبوت السيل و ثبوت ما يوقد عليه، و كون ثبوت الباطل نظير ثبوت الزبد فلا موجب للتقدير مع استقامة المعنى بدونه.

ثم قال تعالى: "فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" جمع بين الزبدين أعني زبد السيل و زبد ما يوقدون عليه و قد كانا متفرقين في الذكر لاشتراك الجميع فيما يذكر من الخاصة و هو أنه يذهب جفاء، و لذا قدمنا آنفا أن الآية تتضمن مثلا واحدا و إن انحل إلى غير واحد من الأمثال.

و قد عدل عن ذكر الماء و غيره إلى قوله: "و أما ما ينفع الناس" للدلالة على خاصة يختص بها الحق و هو أن الناس ينتفعون به و هو الغاية المطلوبة لهم.

و المعنى: فأما الزبد الذي كان يطفو على السيل و يعلوه أو يخرج مما يوقدون عليه في النار فيذهب جفاء و يصير باطلا متلاشيا، و أما الماء الخالص أو العين الأرضية المصوغة و فيهما انتفاع الناس و تمتعهم في معاشهم فيمكث في الأرض ينتفع به الناس.

ثم قال تعالى: "كذلك يضرب الله الأمثال" و ختم به القول أي إن الأمثال المضروبة للناس في كلامه تعالى يشابه المثل المضروب في هذه الآية في أنها تميز الحق من الباطل و تبين للناس ما ينفعهم في معاشهم و معادهم.

و لا يبعد أن تكون الإشارة بقوله: "كذلك" إلى ما ذكره من أمر نزول المطر و جريان الأدوية بسيولها المزبدة و إيقاد المواد الأرضية و خروج زبدها، أعني أن تكون الإشارة إلى نفس هذه الحوادث الخارجية و التكونات العينية لا القول فيدل على أن هذه الوقائع الكونية و الحوادث الواقعة في عالم الشهادة أمثال مضروبة تهدي أولي النهي و البصيرة إلى ما في عالم الغيب من الحقائق كما أن ما في عالم الشهادة آيات دالة على ما في عالم الغيب على ما تكرر ذكره في القرآن الكريم، و لا كثير فرق بين كون هذه المشهودات أمثالا مضروبة أو آيات دالة و هو ظاهر.

و قد تبين بهذا المثل المضروب في الآية أمور هي من كليات المعارف الإلهية: أحدها: أن الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات الذي هو بمنزلة الرحمة السماوية و المطر النازل من السحاب على ساحة الأرض خال في نفسه عن الصور و الأقدار و إنما يتقدر من ناحية الأشياء أنفسها كماء المطر الذي يحتمل من القدر و الصورة و ما يطرأ عليه من ناحية قوالب الأودية المختلفة في الأقدار و الصور فإنما تنال الأشياء من العطية الإلهية بقدر قابليتها و استعداداتها و تختلف باختلاف الاستعدادات و الظروف و الأوعية.

و هذا أصل عظيم يدل عليه أو يلوح إليه آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر: 21 و قوله: "و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج": الزمر: 6 و من الدليل عليه جميع آيات القدر.



ثم إن هذه الأمور المسماة بالأقدار و إن كانت خارجة عن الإفاضة السماوية مقدرة لها لكنها غير خارجة عن ملك الله سبحانه و سلطانه و لا واقعة من غير إذنه و قد قال تعالى، "إليه يرجع الأمر كله": هود: 123، و قال: "بل لله الأمر جميعا": الآية: 31 من السورة و بانضمام هذه الآيات إلى الآيات السابقة يظهر أصل آخر أدق معنى و أوسع مصداقا.

و ثانيها: أن تفرق هذه الرحمة السماوية في أودية العالم و تقدرها بالأقدار المقارنة لها لا ينفك عن أخباث و فضولات تعلوها و تظهر منها غير أنها باطلة أي زائلة غير ثابتة بخلاف تلك الرحمة النازلة المتقدرة بالأقدار فإنها باقية ثابتة أي حقة و عند ذلك ينقسم ما في الوجود إلى حق و هو الثابت الباقي و باطل و هو الزائل غير الثابت.

و الحق من الله سبحانه و الباطل ليس إليه و إن كان بإذنه قال تعالى: "الحق من ربك": آل عمران: 60 و قال: "و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا": ص: 27 فهذه الموجودات يشتمل كل منها على جزء حق ثابت غير زائل سيعود إليه ببطلان ما هو الباطل منها كما قال: "ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى": الأحقاف: 3 و قال: "و يحق الله الحق بكلماته": يونس: 82 و قال: "إن الباطل كان زهوقا": أسرى: 81 و قال: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق": الأنبياء: 18.

و ثالثها: أن من حكم الحق أنه لا يعارض حقا غيره و لا يزاحمه بل يمده و ينفعه في طريقه إلى كماله و يسوقه إلى ما يسلك إليه من السعادة، يدل على ذلك تعليقه البقاء و المكث في الآية على الحق الذي ينفع الناس.

و ليس المراد بنفي التعارض ارتفاع التنازع و التزاحم من بين الأشياء في عالمنا المشهود فإنما هو دار التنازع و التزاحم لا يرى فيه إلا نار يخمدها ماء و ماء تفنيها نار و أرض يأكلها نبات و نبات يأكله حيوان ثم الحيوان يأكل بعضه بعضا ثم الأرض يأكل الجميع بل المراد أن هذه الأشياء على ما بينها من الافتراس و الانتهاش تتعاون في تحصيل الأغراض الإلهية و يتسبب بعضها ببعض للوصول إلى مقاصدها النوعية فمثلها مثل القدوم و الخشب فإنهما مع تنازعهما يتعاونان في خدمة النجار في صنعة الباب مثلا، و مثل كفتي الميزان فإنهما في تعارضهما و تصارعهما يطيعان من بيده لسان الميزان لتقدير الوزن، و هذا بخلاف الباطل كوجود كلال في القدوم أو بخس في المثقال فإنه يعارض الغرض الحق و يخيب السعي فيفسد من غير إصلاح و يضر من غير نفع.

و من هذا الباب غالب آيات التسخير في القرآن كقوله: "و سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض جميعا منه": الجاثية: 13 فكل شيء منها يفعل ما يقتضيه طبعه غير أنه يسلك في ذلك إلى تحصيل ما أراده الله سبحانه من الأمر.

و هذه الأصول المستفادة من الآية الكريمة هي المنتجة لتفاصيل أحكام الصنع و الإيجاد، و لئن تدبرت في الآيات القرآنية التي تذكر الحق و الباطل و أمعنت فيها رأيت عجبا.



و اعلم أن هذه الأصول كما تجري في الأمور العينية و الحقائق الخارجية كذلك تجري في العلوم و الاعتقادات فمثل الاعتقادات الحق في نفس المؤمن مثل الماء النازل من السماء الجاري في الأودية على اختلاف سعتها و ينتفع به الناس و تحيى قلوبهم و يمكث فيهم الخير و البركة، و مثل الاعتقاد الباطل في نفس الكافر كمثل الزبد الذي يربو السيل لا يلبث دون أن يذهب جفاء و يصير سدى، قال تعالى: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء": إبراهيم: 27.

قوله تعالى: "للذين استجابوا لربهم الحسنى و الذين لم يستجيبوا له" إلى آخر الآية المهاد الفراش الذي يوطأ لصاحبه و المكان الممهد الموطأ و سميت جهنم مهادا لأنها مهدت لاستقرارهم فيها لكفرهم و أعمالهم السيئة.

و الآية و ما بعدها من الآيات التسعة متفرعة على المثل المضروب في الآية السابقة - كما تقدمت الإشارة إليه يبين الله سبحانه فيها آثار الاعتقاد الحق و الإيمان به و الاستجابة لدعوته، و آثار الاعتقاد الباطل و الكفر به و عدم استجابة دعوته و يشهد بذلك سياق الآيات فإن الحديث فيها يدور حول عاقبة الإيمان و الكفر و أن العاقبة المحمودة التي للإيمان لا يقوم مقامها شيء و لو كان ضعف ما في الدنيا من نعمة.

و على هذا فالأظهر أن يكون المراد بالحسنى العاقبة الحسنى و ما ذكره بعضهم أن المراد بها المثوبة الحسنى أو الجنة و إن كان حقا بحسب المآل فإن عاقبة الإيمان و العمل الصالح المحمودة هي المثوبة الإلهية الحسنى و هي الجنة لكن المثوبة أو الجنة غير مقصودة في المقام بما أنها مثوبة أو جنة بل بما أنها عاقبة أمرهم و ينتهي إليها سعيهم.

و يؤيده بل يدل عليه قوله تعالى فيهم في الآيات التالية بعد تعريفهم بصفاتهم المختصة بهم: "أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها" الآية.

و على هذا أيضا فقوله: "لو أن لهم ما في الأرض جميعا و مثله معه لافتدوا به" موضوع موضع الغاية المحذوفة للدلالة على فخامة أمرها و بلوغها الغاية من حمل الهول و الدهشة و الشر و الشقوة بما لا يذكر.

و المعنى: و الذين لم يستجيبوا لربهم يحل بهم أمر - أو يفوتهم أمر و هو نتيجة الاستجابة و عاقبتها الحسنى من صفته أنه لو أن لهم ما في الأرض من نعمة تلتذ بها النفس الإنسانية و هو غاية ما يمكن لإنسان أن يأمله و يتمناه ثم أضيف إليه مثله و هو فوق منية الإنسان و بعبارة ملخصة لو كانوا يملكون غاية مناهم في الحياة و ما فوق هذه الغاية رضوا أن يفتدوا بهذا الذي يملكونه فرضا عما يفوتهم من الحسنى، و في بعض كلمات علي (عليه السلام): في وصفه: "غير موصوف ما نزل بهم".

ثم أخبر تعالى عن هذا الذي لا يوصف من عاقبة أمرهم فقال: "أولئك لهم سوء الحساب و مأواهم جهنم" و سوء الحساب الحساب الذي يسوؤهم و لا يسرهم فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ثم ذم تعالى ذلك مشيرا إلى سوء العاقبة بقوله: "و بئس المهاد" أي بئس المهاد مهادهم الذي مهد لهم و يستقرون فيه، و مجموع قوله: "أولئك لهم سوء الحساب" إلخ في موضع التعليل لما ذكر من الافتداء و التعليل بالإشارة كثير في الكلام يقال: افعل بفلان كذا و كذا ذاك الذي من صفته كذا و كذا.

و معنى الآية و الله أعلم - للذين استجابوا لدعوة ربهم الحقة العاقبة الحسنى و الذين لم يستجيبوا له لهم من عاقبة الأمر ما يرضون أن يفدوا للتخلص منه فوق ما يمكنهم أن يتمنوه لأن الذي يحل بهم من العاقبة السيئة يتضمن أو يقارن سوء الحساب و القرار في و بئس المهاد مهادهم.



و قد وضع في الآية الاستجابة و عدم الاستجابة مكان الإيمان و الكفر لمناسبة المثل المضروب في الآية السابقة من نزول الماء من السماء و قبول الأودية منه كل بقدره، و الاستجابة قبول الدعوة.

قوله تعالى: "أ فمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب" استفهام إنكاري و هو في موضع التعليل لما تتضمنه الآية السابقة، و بيان تفصيلي لعاقبة حال الفريقين من حيث استجابة دعوة الحق و عدمها.

و ملخص البيان: أن الحق يستقر في قلوب هؤلاء الذين استجابوا لربهم فتصير قلوبهم ألبابا و قلوبا حقيقية لها آثارها و بركاتها و هو التذكر و التبصر، و من خواص هذه القلوب التي يعرف بها صاحبوها أن أولي الألباب يثبتون على الوفاء بعهد الله المأخوذ عنهم بفطرتهم فلا ينقضون ميثاق ربهم، و يثبتون على احترام ما وصلهم الله به و هي الرحم التي أجرى الله الخلقة من طريقها فيصلونها و هم خاشعون خائفون، و يثبتون بالصبر عند المصائب و عن المعصية و على الطاعة، و يجرون بالتوجه إلى ربهم و هو الصلاة، و إصلاح المجتمع و هو الإنفاق، و درء السيئات بالحسنات.

فهؤلاء لهم عاقبة الدار المحمودة و هي الجنة يدخلونها و تنعكس إليهم فيها مثوبات أعمالهم الحسنة المذكورة فيصاحبون فيها الصالحين من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم كما وصلوا الرحم في الدنيا، و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب مسلمين عليهم بما صبروا كما فتحوا أبواب العبادات و الطاعات المختلفة في الدنيا فهذا هو أثر الحق.

و قوله: "أ فمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى" الاستفهام فيه للإنكار - كما تقدم - و فيه نفي التساوي بين من استقر في قلبه العلم بالحق و من جهل الحق و في توصيف الجاهل بالحق بالأعمى إيماء إلى أن العالم به يصير و قد سماه بالأعمى و البصير في قوله آنفا: "قل هل يستوي الأعمى و البصير" الآية، فالعلم بالحق بصيرة و الجهل به عمى و التبصر يفيد التذكر و لذا عده من خواص أولي العلم بقوله: "إنما يتذكر".

و قوله: "إنما يتذكر أولوا الألباب" في مقام التعليل لما سبقه أعني قوله: "أ فمن يعلم" إلخ، أي أنهما لا يستويان لأن لأولي العلم تذكر ليس لأولي العمى و الجهل، و قد وضع في موضع أولي العلم أولوا الألباب فدل على دعوى أخرى تفيد فائدة التعليل كأنه قيل: لا يستويان لأن لأحد الفريقين تذكرا ليس للآخر، و إنما اختص التذكر بهم لأن لهم ألبابا و قلوبا و ليس ذلك لغيرهم.

قوله تعالى: "الذين يوفون بعهد الله و لا ينقضون الميثاق" ظاهر السياق أن الجملة الثانية عطف تفسيري على الجملة الأولى فالمراد بالميثاق الذي لا ينقضونه هو عهد الله الذي يوفون به، و المراد بهذا العهد و الميثاق بقرينة ما ذكر في الآية السابقة من تذكرهم هو ما عاهدوا به ربهم و واثقوه بلسان فطرتهم أن يوحدوه و يجروا على ما يقتضيه توحيده من الآثار فإن الإنسان مفطور على توحيده تعالى و ما يهتف به توحيده، و هذا عهد عاهدته الفطرة و عقد عقدته.

و أما العهود و المواثيق المأخوذة بوسيلة الأنبياء و الرسل عن أمر من الله و الأحكام و الشرائع فكل ذلك من فروع الميثاق الفطري فإن الدين فطري.



قوله تعالى: "و الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل" إلخ، الظاهر أن المراد بالأمر هو الأمر التشريعي النازل بشهادة ذيل الآية "و يخافون سوء الحساب" فإن الحساب على الأحكام النازلة في الشريعة ظاهرا و إن كانت مدركة بالفطرة كقبح الظلم و حسن العدل فإن المستضعف الذي لم يبلغه الحكم الإلهي و لم يقصر لا يحاسب عليه كما يحاسب غيره، و قد تقدم في أبحاثنا السابقة أن الحجة لا تتم على الإنسان بمجرد الإدراك الفطري لو لا انضمام طريق الوحي إليه قال تعالى: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل": النساء: 165.

و الآية مطلقة فالمراد به كل صلة أمر الله سبحانه بها و من أشهر مصاديقه صلة الرحم التي أمر الله بها و أكد القول في وجوبها، قال تعالى: "و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام": النساء: 1.

و قد أكد القول فيه بما في ذيل الآية من قوله: "و يخشون ربهم و يخافون سوء الحساب" فأشار إلى أن في ترك الصلة مخالفة لأمر الله فليخش الله في ذلك و عملا سيئا مكتوبا في صحيفة العمل محفوظا على الإنسان يجب أن يخاف من حسابه السيىء.

و الظاهر أن الفرق بين الخشية و الخوف أن الخشية تأثر القلب من إقبال الشر أو ما في حكمه، و الخوف هو التأثر عملا بمعنى الإقدام على تهيئة ما يتقى به المحذور و إن لم يتأثر القلب و لذا قال سبحانه في صفة أنبيائه: "و لا يخشون أحدا إلا الله": الأحزاب: 39.

فنفى عنهم الخشية عن غيره و قد أثبت الخوف لهم عن غيره في مواضع من كلامه كقوله: "فأوجس في نفسه خيفة موسى": طه: 67 و قوله: "و إما تخافن من قوم خيانة": الأنفال: 58.

و لعله إليه يرجع ما ذكره الراغب في الفرق بينهما أن الخشية خوف يشوبه تعظيم و أكثر ما يكون ذلك عن علم.

و لذا خص العلماء بها في قوله.

"إنما يخشى الله من عباده العلماء" و كذا قول بعضهم: إن الخشية أشد الخوف لأنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشية أي يابسة.

و كذا قول بعضهم: إن الخوف يتعلق بالمكروه و بمنزله يقال: خفت المرض و خفت زيدا بخلاف الخشية فإنها تتعلق بالمنزل دون المكروه نفسه يقال: خشيت الله.

و لو لا رجوعها إلى ما قدمناه لكانت ظاهرة النقض و ذكر بعضهم أن الفرق أغلبي لا كلي، و الآخرون أن لا فرق بينهما أصلا و هو مردود بما قدمناه من الآيات.

قوله تعالى: "و الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم و أقاموا الصلاة و أنفقوا" إلى آخر الآية، إطلاق الصبر يدل على اتصافهم بجميع شعبه و أقسامه و هي الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية لكنه مع ذلك مقيد بقوله: "ابتغاء وجه ربهم" أي طلبا لوجه ربهم فصفتهم التي يمدحون بها أن يكون صبرهم لوجه الله لأن الكلام في صفاتهم التي تنشأ و تنمو فيهم من استجابتهم لربهم و علمهم بحقية ما أنزل إليهم من ربهم لا كل صفة يمدحها الناس فيما بينهم و إن لم ترتبط بعبوديتهم و إيمانهم بربهم كالصبر عند الكريهة تمنعا و عجبا بالنفس أو طلبا لجميل الثناء و نحوه كما قيل: و قولي كلما جشأت و جاشت.

مكانك تحمدي أو تستريحي.

و المراد بوجه الرب تعالى هو الجهة المنسوبة إليه تعالى من العمل و نحوه و هي الجهة التي عليها يظهر و يستقر العمل عنده تعالى أعني المثوبة التي له عنده الباقية ببقائه و قد قال تعالى: "و الله عنده حسن الثواب": آل عمران: 195، و قال: "و ما عند الله باق": النحل: 96 و قال: "كل شيء هالك إلا وجهه": القصص: 88.

و قوله: "و أقاموا الصلاة" أي جعلوها قائمة غير ساقطة بالإخلال بأجزائها و شرائطها أو بالاستهانة بأمرها، و عطف الصلاة و ما بعدها على الصبر من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنه و تعظيما لأمره.

كما قيل.



و قوله: "و أنفقوا مما رزقناهم سرا و علانية" المراد به مطلق الإنفاق أعم من الواجب و غيره، و الآية مكية لم ينزل وجوب الزكاة عند نزولها بعد، و تقييد الإنفاق بقوله: "سرا و علانية" للدلالة على استيفائهم حقه فإن من الإنفاق ما يحسن فيه الإسرار و منه ما يحسن فيه الإعلان فعلى من آمن بما أنزله الله بالحق أن يستوفي من كل حقه فيسر بالإنفاق إذا كان في إعلانه مظنة الرياء أو السمعة أو أهانة أو إذهاب ماء الوجه، و يعلن فيه فيما كان في إعلانه تشويق الناس على البر و المعروف و دفع التهمة و نحو ذلك.

و قوله: "و يدرؤن بالحسنة السيئة" الدرء الدفع و المعنى إذا صادفوا سيئة جاءوا بحسنة تزيد عليها أو تعادلها فيدفعون بها السيئة، و هذا أعم من أن يكون ذلك في سيئة صدرت من أنفسهم فدفعوها بحسنة جاءوا بها فإن الحسنات يذهبن السيئات أو دفعوها بتوبة إلى ربهم فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له أو في سيئة أتى بها غيرهم بالنسبة إليهم كمن ظلمهم فدفعوه بالعفو أو بالإحسان إليه أو من جفاهم فقابلوه بحسن الخلق و البشر كما إذا خاطبهم الجاهلون فقالوا.

سلاما أو أتى بمنكر فنهوا عنه أو ترك معروف فأمروا به.

فذلك كله من درء السيئة بالحسنة و لا دليل من جانب اللفظ يدل على التخصيص ببعض هذه الوجوه البتة.

و قد اختلف التعبير في هذه الصفات المذكورة لأولي الألباب: "الذين يوفون، و لا ينقضون، و يصلون، و يخشون، و يخافون، و صبروا، و أقاموا، و أنفقوا، و يدرءون" فأتي في بعضها - و هي ستة بلفظ المضارع، و في بعضها - و هي ثلاثة - بلفظ الماضي.

و قد نقل عن بعضهم في وجه ذلك أن التعبير في قوله: "و الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم و أقاموا الصلاة و أنفقوا مما رزقناهم" إلخ بلفظ الماضي و فيما تقدم بلفظ المضارع على سبيل التفنن في الفصاحة لأن هذه الأفعال وقعت صلة للموصول يعني "الذين" و الموصول و صلته في معنى اسم الشرط مع الجملة الشرطية، و الماضي و المضارع يستويان معنى في الجملة الشرطية نحو إن ضربت ضربت و إن تضرب أضرب فكذا فيما بمعناه.

و لذا قال النحويون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي و أن يراد به الاستقبال فمن الأول "الذين قال لهم الناس" و من الثاني "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم".

و فيه أن إلغاء خصوصية زمان الفعل من المضي و الاستقبال في الشرط و ما في معناه لا يستوجب إلغاء لوازم الأزمنة كالتحقق في الماضي و الجريان و الاستمرار و نحوهما في المضارع فإن في الماضي مثلا عناية بالتحقق و إن كان ملغى الزمان فصحة السؤال عن نكتة اختلاف التعبير في محله بعد.

و يستفاد من كلام بعض آخر في وجهه أن المراد بالأوصاف المتقدمة أعني الوفاء بالعهد و الصلة و الخشية و الخوف الاستصحاب و الاستمرار لكن الصبر لما كان مما يتوقف على تحققه التلبس بتلك الأوصاف اعتني بشأنه فعبر بلفظ الماضي الدال على التحقق و كذا في الصلاة و الإنفاق اعتناء بشأنهما.

و فيه أن بعض الصفات السابقة لا يقصر في الأهمية عن الصبر و الصلاة و الإنفاق كالوفاء بعهد الله الذي أريد به الإيمان بالله بإجابة دعوة الفطرة فلو كان الاعتناء بالشأن هو الوجه كان من الواجب أن يعبر عنه بلفظ الماضي كغيره من الصبر و الصلاة و الإنفاق.



و الذي أحسب - و الله أعلم - أن مجموع قوله تعالى: "و الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم و أقاموا الصلاة و أنفقوا مما رزقناهم سرا و علانية و يدرؤن بالحسنة السيئة" مسوق لبيان معنى واحد و هو الإتيان بالعمل الصالح أعني إتيان الواجبات و ترك المحرمات و تدارك ما يقع فيه من الخلل استثناء بالحسنة فالعمل الصالح هو المقصود بالأصالة و درء السيئة بالحسنة الذي هو تدارك الخلل الواقع في العمل مقصود بالتبع كالمتمم للنقيصة.

فلو جرى الكلام على السياق السابق و قيل: "و الذين يصبرون ابتغاء وجه ربهم و يقيمون الصلاة و ينفقون مما رزقناهم سرا و علانية و يدرؤن بالحسنة السيئة" فاتت هذه العناية و بطل ما ذكر من حديث الأصالة و التبعية لكن قيل: "و الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم" فأخذ جميع الصبر المستقر أمرا واحدا مستمرا ليدل على وقوع كل الصبر منهم ثم قيل: "و يدرؤن" إلخ ليدل على دوام مراقبتهم بالنسبة إليه لتدارك ما وقع فيه من الخلل و كذا في الصلاة و الإنفاق فافهمه.

و هذه العناية بوجه نظيرة العناية في قوله تعالى: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة" الآية، حيث يدل على تفرع تنزل الملائكة على تحقق قولهم "ربنا الله" و استقامتهم دون الاستمرار عليه.

و قوله: "أولئك لهم عقبى الدار" أي عاقبتها المحمودة فإنها هي العاقبة حقيقة لأن الشيء لا ينتهي بحسب ما جبله الله عليه إلا إلى عاقبة تناسبه و تكون فيها سعادته، و أما العاقبة المذمومة السيئة ففيها بطلان عاقبة الشيء لخلل واقع فيه، و إنما تسمى عاقبة بنحو من التوسع، و لذلك أطلق في الآية عقبى الدار و أريدت بها العاقبة المحمودة و قوبلت فيما يقابلها من الآيات بقوله: "و لهم سوء الدار"، و من هنا يظهر أن المراد بالدار هذه الدار الدنيا أي حياة الدار فالعاقبة عاقبتها.

قوله تعالى: "جنات عدن يدخلونها و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم" العدن الاستقرار يقال: عدن بمكان كذا إذا استقر فيه و منه المعدن لمستقر الجواهر الأرضية و جنات عدن أي جنات نوع من الاستقرار فيه خلود و سلام من كل جهة.

و جنات عدن "إلخ" بدل أو عطف بيان من قوله: "عقبى الدار" أي عاقبة هذه الدار المحمودة هي جنات العدن و الخلود فليست هذه الحياة الدنيا بحسب ما طبعها الله عليه إلا حياة واحدة متصلة أولها عناء و بلاء و آخرها رخاء نعيم و سلام، و هذا الوعد هو الذي يحكي وفاءه تعالى به حكاية عن أهل الجنة بقوله: "و قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء": الزمر: 74.

و الآية - كما سمعت - تحاذي قوله: "يصلون ما أمر الله به أن يوصل" و بيان لعاقبة هذا الحق الذي أخذوه و عملوا به و بشرى لهم أنهم سيصاحبون الصالحين من أرحامهم و أهليهم من الآباء و الأمهات و الذراري و الإخوان و الأخوات و غيرهم و يشمل الجميع قوله: "آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم" لأن الأمهات أزواج الآباء و الإخوان و الأخوات و الأعمام و الأخوال و أولادهم ذريات الآباء و الآباء، من الداخلين فمعهم أزواجهم و ذرياتهم ففي الآية إيجاز لطيف.

قوله تعالى: "و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" و هذا عقبى أعمالهم الصالحة التي داموا عليها في كل باب من أبواب الحياة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و عند المصيبة مع الخشية و الخوف.

و قوله: "سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" قول الملائكة و قد خاطبوهم بالأمن و السلام الخالد و عقبى محمودة لا يعتريها ذم و سوء أبدا.



قوله تعالى: "و الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" إلى آخر الآية، بيان حال غير المؤمنين بطريق المقابلة و قد قوبل بقوله: "و يفسدون في الأرض" بقية ما ذكر في الآيات السابقة بعد الوفاء بعهد الله و الصلة، من الأعمال الصالحة و فيه إيماء إلى أن الأعمال الصالحة هي التي تضمن صلاح الأرض و عمارة الدار على نحو يؤدي إلى سعادة النوع الإنساني و رشد المجتمع البشري، و قد تقدم بيانه في دليل النبوة العامة.

و قد بين تعالى جزاء عملهم و عاقبة أمرهم بقوله: "أولئك لهم اللعنة و لهم سوء الدار" و اللعن الإبعاد من الرحمة و الطرد من كل كرامة، و ليس ذلك إلا لانكبابهم على الباطل و رفضهم الحق النازل من الله، و ليس للباطل إلا البوار.

قوله تعالى: "الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر" إلى آخر الآية بيان أن ما أوتي الفريقان من العاقبة المحمودة و الجنة الخالدة و من اللعنة و سوء الدار هو من الرزق الذي يرزقه الله من يشاء و كيف يشاء من غير حجر عليه أو إلزام.

و قد بين أن فعله تعالى يستمر على وفق ما جعله من نظام الحق و الباطل فالاعتقاد الحق و العمل به ينتهي إلى الارتزاق بالجنة و السلام و الباطل من الاعتقاد و العمل به ينتهي إلى اللعنة و سوء الدار و نكد العيش.

و قوله: "و فرحوا بالحياة الدنيا و ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع" يريد به - على ما يفيده السياق - أن الرزق هو رزق الأخرى لكنهم لميلهم إلى ظاهر الحياة الدنيا و زينتها ركنوا إليها و فرحوا بها، و قد أخطئوا فإنها حياة غير مقصودة بنفسها و لا خالدة في بقائها بل مقصودة لغيرها الذي هو الحياة الآخرة فهي بالنسبة إلى الآخرة متاع يتمتع به في غيره و لغيره غير مطلوب لنفسه فالحياة الدنيا بالقياس إلى الحياة الآخرة إنما تكون من الحق إذا أخذت مقدمة لها يكتسب بها رزقها و أما إذا أخذت مطلوبة بالاستقلال فليست إلا من الباطل الذي يذهب جفاء و لا ينتفع به في شيء، قال تعالى: "و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون": العنكبوت: 64.

بحث روائي

في الاحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): في حديث يذكر فيه أحوال الكفار قوله: "فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" الزبد في هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن فهو يضمحل و يبطل و يتلاشى عند التحصيل، و الذي ينفع الناس منه، فالتنزيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و القلوب تقبله. و الأرض في هذا الموضع هي محل العلم و قراره.

أقول: المراد بالتنزيل المراد الحقيقي من كلامه تعالى، و بكلام الملحدين المثبت في القرآن هو ما فسروه برأيهم، و ما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق و الآية أعم مدلولا كما مر.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن قتادة: في قوله: "الذين يوفون بعهد الله و لا ينقضون الميثاق" عليكم بالوفاء بالعهد و لا تنقضوا الميثاق فإن الله قد نهى عنه و قدم فيه أشد التقدمة، و ذكره في بضع و عشرين آية نصيحة لكم و تقدمة إليكم و حجة عليكم، و إنما يعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم و أهل العقل و أهل العلم بالله، و ذكر لنا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول في خطبته: لا إيمان لمن لا أمانة له و لا دين لمن لا عهد له.

أقول: ظاهر كلامه حمل العهد و الميثاق في الآية الكريمة على ما يدور بين الناس أنفسهم و قد عرفت أن ظاهر السياق خلافه.



و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل" قال: قرابتك.

و فيه، أيضا بإسناد آخر عنه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): "الذين يصلون ما أمر الله به - أن يوصل" قال: نزلت في رحم آل محمد و قد يكون في قرابتك. ثم قال: و لا تكونن ممن يقول في الشيء أنه في شيء واحد.

أقول: يعني لا تقصر القرآن على معنى واحد إذا احتمل معنى آخر فإن للقرآن ظهرا و بطنا و قد جعل الله مودة ذي القربى - و هي من الصلة - أجر الرسالة في قوله: "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى": الشورى: 23 و يدل على ما ذكرنا الرواية الآتية.

و في تفسير العياشي، عن عمر بن مريم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: "الذين يصلون ما أمر الله به - أن يوصل" قال: من ذلك صلة الرحم و غاية تأويلها صلتك إيانا.

و فيه، عن محمد بن الفضيل قال: سمعت العبد الصالح يقول: "الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل" قال هي رحم آل محمد معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني و اقطع من قطعني، و هي تجري في كل رحم.

أقول: و في هذه المعاني روايات أخر، و قد تقدم معنى تعلق الرحم بالعرش في تفسير أوائل سورة النساء في الجزء الرابع من الكتاب.

و في الكافي، بإسناده عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: و مما فرض الله عز و جل أيضا في المال من غير الزكاة قوله عز و جل: "الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل".

أقول: و رواه العياشي في تفسيره.

و في تفسير العياشي، عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قال لرجل: فلان ما لك و لأخيك؟ قال: جعلت فداك كان لي عليه حق فاستقصيت منه حقي. قال أبو عبد الله (عليه السلام) أخبرني عن قول الله: "و يخافون سوء الحساب" أ تراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم: لا و الله خافوا الاستقصاء و المداقة:. أقول: و رواه في المعاني، و تفسير القمي،.

و فيه، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: "و يخافون سوء الحساب" قال: الاستقصاء و المداقة، و قال: يحسب عليهم السيئات و لا يحسب لهم الحسنات.

أقول: و ذيل الحديث مروي بطرق مختلفة عنه (عليه السلام)، و عدم حساب الحسنات إنما هو لمكان المداقة و الحصول على وجوه الخلل الخفية كما تدل عليه الرواية التالية.

و فيه، عن هشام عنه (عليه السلام): في الآية قال: يحسب عليهم السيئات و لا يحسب لهم الحسنات و هو الاستقصاء.

و فيه، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بر الوالدين و صلة الرحم يهون الحساب ثم تلا هذه الآية: "الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل - و يخشون ربهم و يخافون سوء الحساب".

و في الدر المنثور،: في قوله: "جنات عدن": أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جنة عدن قضيب غرسه الله بيده ثم قال له: كن فكان.

و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن شمر اليماني يرفع الحديث إلى علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة، و صبر على الطاعة، و صبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، و من صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، و من صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش.

13 سورة الرعد - 27 - 35

وَ يَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رّبِّهِ قُلْ إِنّ اللّهَ يُضِلّ مَن يَشاءُ وَ يهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَاب (27) الّذِينَ ءَامَنُوا وَ تَطمَئنّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلا بِذِكرِ اللّهِ تَطمَئنّ الْقُلُوب (28) الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ طوبى لَهُمْ وَ حُسنُ مَئَابٍ (29) كَذَلِك أَرْسلْنَك فى أُمّةٍ قَدْ خَلَت مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَا عَلَيهِمُ الّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْك وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبى لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكلْت وَ إِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَ لَوْ أَنّ قُرْءَاناً سيرَت بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطعَت بِهِ الأَرْض أَوْ كلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَايْئَسِ الّذِينَ ءَامَنُوا أَن لّوْ يَشاءُ اللّهُ لَهَدَى النّاس جَمِيعاً وَ لا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبهُم بِمَا صنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تحُلّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتى يَأْتىَ وَعْدُ اللّهِ إِنّ اللّهَ لا يخْلِف الْمِيعَادَ (31) وَ لَقَدِ استهْزِئَ بِرُسلٍ مِّن قَبْلِك فَأَمْلَيْت لِلّذِينَ كَفَرُوا ثمّ أَخَذْتهُمْ فَكَيْف كانَ عِقَابِ (32) أَ فَمَنْ هُوَ قَائمٌ عَلى كلِّ نَفْسِ بِمَا كَسبَت وَ جَعَلُوا للّهِ شرَكاءَ قُلْ سمّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فى الأَرْضِ أَم بِظهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صدّوا عَنِ السبِيلِ وَ مَن يُضلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لهُّمْ عَذَابٌ فى الحَْيَوةِ الدّنْيَا وَ لَعَذَاب الاَخِرَةِ أَشقّ وَ مَا لهَُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ (34) مّثَلُ الْجَنّةِ الّتى وُعِدَ الْمُتّقُونَ تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنهَرُ أُكلُهَا دَائمٌ وَ ظِلّهَا تِلْك عُقْبى الّذِينَ اتّقَوا وّ عُقْبى الْكَفِرِينَ النّارُ (35)

بيان

عود ثان إلى قول الكفار: "لو لا أنزل عليه آية من ربه" نراها فنهتدي بها و نعدل بذلك عن الشرك إلى الإيمان و يجيب تعالى عنه بأن الهدى و الضلال ليس شيء منهما إلى ما ينزل من آية بل إن ذلك إليه تعالى يضل من يشاء و يهدي من يشاء و قد جرت السنة الإلهية على هداية من أناب إليه و كان له قلب يطمئن إلى ذكره و أولئك لهم حسن المآب و عقبى الدار.

و إضلال من كفر بآياته الواضحة و أولئك لهم عذاب في الدنيا و لعذاب الآخرة أشق و ما لهم من دون الله من واق.

و أن الله أنزل عليهم آية معجزة مثل القرآن لو أمكنت هداية أحد من غير مشية الله لكانت به لكن الأمر إلى الله و هو سبحانه لا يريد هداية من كتب عليهم الضلال من أهل الكفر و المكر و من يضلل الله فما له من هاد.

قوله تعالى: "و يقول الذين كفروا لو لا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء و يهدي إليه من أناب" عود إلى قول الكفار "لو لا أنزل عليه آية من ربه" و إنما أرادوا به أنه لو أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آية من ربه لاهتدوا به و استجابوا له و هم لا يعدون القرآن النازل إليه آية.

و الدليل على إرادتهم هذا المعنى قوله بعده: "قل إن الله يضل من يشاء" إلخ و قوله بعد: "و لو أن قرآنا سيرت به الجبال - إلى قوله - بل لله الأمر جميعا" و قوله بعد: "و صدوا عن السبيل" إلى آخر الآية.

فأجاب تعالى عن قولهم بقوله آمرا نبيه أن يلقيه إليهم: "قل إن الله يضل من يشاء و يهدي إليه من أناب" فأفاد أن الأمر ليس إلى الآية حتى يهتدوا بنزولها و يضلوا بعدم نزولها بل أمر الإضلال و الهداية إلى الله سبحانه يضل من يشاء و يهدي من يشاء.

و لما لم يؤمن أن يتوهموا منه أن الأمر يدور مدار مشية جزافية غير منتظمة أشار إلى دفعه بتبديل قولنا: و يهدي إليه من يشاء من قوله: "و يهدي إليه من أناب" فبين أن الأمر إلى مشية الله تعالى جارية على سنة دائمة و نظام متقن مستمر و ذلك أنه تعالى يشاء هداية من أناب و رجع إليه و يضل من أعرض و لم ينب فمن تلبس بصفة الإنابة و الرجوع إلى الحق و لم يتقيد بأغلال الأهواء هداه الله بهذه الدعوة الحقة و من كان دون ذلك ضل عن الطريق و إن كان مستقيما و لم تنفعه الآيات و إن كانت معجزة و ما تغن الآيات و النذر عن قوم لا يؤمنون.

و من هنا يظهر أن قوله: "إن الله يضل" إلخ، على تقدير: أن الله يضل بمشيته من لم ينب إليه و يهدي إليه بمشيته من أناب إليه.

و يظهر أيضا أن الضمير "إليه" في "يهدي إليه" راجع إليه تعالى و أن ما ذكره بعضهم أنه راجع إلى القرآن.

و آخرون أنه راجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير وجيه.

قوله تعالى: "الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب" الاطمئنان السكون و الاستقرار و الاطمئنان إلى الشيء السكون إليه.



و ظاهر السياق أن صدر الآية بيان لقوله في ذيل الآية السابقة: "من أناب" فالإيمان و اطمئنان القلب بذكر الله هو الإنابة، و ذلك من العبد تهيؤ و استعداد يستعقب عطية الهداية الإلهية كما أن الفسق و الزيغ في باب الضلال تهيؤ و استعداد يستعقب الإضلال من الله كما قال: "و ما يضل به إلا الفاسقين": البقرة: 26 و قال: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم و الله لا يهدي القوم الفاسقين": الصف: 5.

و ليس الإيمان بالله تعالى مثلا مجرد إدراك أنه حق فإن مجرد الإدراك ربما يجامع الاستكبار و الجحود كما قال تعالى: "و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم": النمل: 14 مع أن الإيمان لا يجامع الجحود فليس الإيمان بشيء مجرد إدراك أنه حق مثلا بل مطاوعة و قبول خاص من النفس بالنسبة إلى ما أدركته يوجب تسليمها له و لما يقتضيه من الآثار و آيته مطاوعة سائر القوى و الجوارح و قبولها له كما طاوعته النفس و قبلته فترى المعتاد ببعض الأعمال المذمومة ربما يدرك وجه القبح أو المساءة فيه غير أنه لا يكف عنه لأن نفسه لا تؤمن به و لا تستسلم له و ربما طاوعته و سلمت له بعد ما أدركته و كفت عنه عند ذلك بلا مهل و هو الإيمان.

و هذا هو الذي يظهر من قوله تعالى: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء: الأنعام: 125 فالهداية من الله سبحانه تستدعي من قلب العبد أو صدره و بالأخرة من نفسه أمرا نسبته إليها نسبة القبول و المطاوعة إلى الأمر المقبول المطاوع، و قد عبر عنه في آية الأنعام بشرح الصدر و توسعته، و في الآية المبحوث عنها بالإيمان و اطمئنان القلب و هو أن يرى الإنسان نفسه في أمن من قبوله و مطاوعته و يسكن قلبه إليه و يستقر هو في قلبه من غير أن يضطرب منه أو ينقلع عنه.

و من ذلك يظهر أن قوله: "و تطمئن قلوبهم بذكر الله" عطف تفسيري على قوله: "آمنوا" فالإيمان بالله يلازم اطمئنان القلب بذكر الله تعالى.

و لا ينافي ذلك ما في قوله تعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم": الأنفال: 2 فإن الوجل المذكور فيه حالة قلبية متقدمة على الاطمئنان المذكور في الآية المبحوث عنها كما يرشد إليه قوله تعالى: "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء": الزمر: 23 و ذلك أن النعمة هي النازلة من عنده سبحانه و أما النقمة أيا ما كانت فهي بالحقيقة إمساك منه عن إفاضة النعمة و إنزال الرحمة و ليست فعلا ثبوتيا صادرا منه تعالى على ما يفيده قوله:، ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك فلا مرسل له من بعده": فاطر: 2.

و إذا كان الخوف و الخشية إنما هو من شر متوقع و لا شر عنده سبحانه فحقيقة الخوف من الله هي خوف الإنسان من أعماله السيئة التي توجب إمساك الرحمة و انقطاع الخير المفاض من عنده، و النفس الإنسانية إذا قرعت بذكر الله سبحانه التفتت أولا إلى ما أحاطت به من سمات القصور و التقصير فأخذتها القشعريرة في الجلد و الوجل في القلب ثم التفتت ثانيا إلى ربه الذي هو غاية طلبة فطرته فسكنت إليه و اطمأنت بذكره.



و قال في مجمع البيان،: و قد وصف الله المؤمن هاهنا بأنه يطمئن قلبه إلى ذكر الله، و وصفه في موضع آخر بأنه إذا ذكر الله وجل قلبه لأن المراد بالأول أنه يذكر ثوابه و إنعامه و آلاءه التي لا تحصى و أياديه التي لا تجازى فيسكن إليه، و بالثاني أنه يذكر عقابه و انتقامه فيخافه و يوجل قلبه.

انتهي.

و هذا الوجه أوفق بتفسير من فسر الذكر في الآية بالقرآن الكريم و قد سماه الله تعالى ذكرا في مواضع كثيرة من كلامه كقوله: "و هذا ذكر مبارك": الأنبياء: 50 و قوله: "إنا نحن نزلنا الذكر": الحجر: 9 و غير ذلك.

لكن الظاهر أن يكون المراد بالذكر أعم من الذكر اللفظي و أعني به مطلق انتقال الذهن و الخطور بالبال سواء كان بمشاهدة آية أو العثور على حجة أو استماع كلمة، و من الشاهد عليه قوله بعده: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" فإنه كضرب القاعدة يشمل كل ذكر سواء كان لفظيا أو غيره، و سواء كان قرآنا أو غيره.

و قوله: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" فيه تنبيه للناس أن يتوجهوا إليه و يريحوا قلوبهم بذكره فإنه لا هم للإنسان في حياته إلا الفوز بالسعادة و النعمة و لا خوف له إلا من أن تغتاله الشقوة و النقمة و الله سبحانه هو السبب الوحيد الذي بيده زمام الخير و إليه يرجع الأمر كله، و هو القاهر فوق عباده و الفعال لما يريد و هو ولي عباده المؤمنين به اللاجئين إليه فذكره للنفس الأسيرة بيد الحوادث الطالبة لركن شديد يضمن له السعادة، المتحيرة في أمرها و هي لا تعلم أين تريد و لا أنى يراد بها؟ كوصف الترياق للسليم تنبسط به روحه و تستريح معه نفسه، و الركون إليه و الاعتماد عليه و الاتصال به كتناول ذاك السليم لذلك الترياق و هو يجد من نفسه نشاط الصحة و العافية آنا بعد آن.

فكل قلب - على ما يفيده الجمع المحلى باللام من العموم - يطمئن بذكر الله و يسكن به ما فيه من القلق و الاضطراب نعم إنما ذلك في القلب الذي يستحق أن يسمى قلبا و هو القلب الباقي على بصيرته و رشده، و أما المنحرف عن أصله الذي لا يبصر و لا يفقه فهو مصروف عن الذكر محروم عن الطمأنينة و السكون قال تعالى: "فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور": الحج: 46، و قال: "لهم قلوب لا يفقهون بها": الأعراف: 179 و قال: "نسوا الله فنسيهم": التوبة: 67.

و في لفظ الآية ما يدل على الحصر حيث قدم متعلق الفعل أعني قوله: "بذكر الله" عليه فيفيد أن القلوب لا تطمئن بشيء غير ذكر الله سبحانه، و ما قدمناه من الإيضاح ينور هذا الحصر إذ لا هم لقلب الإنسان و هو نفسه المدركة إلا نيل سعادته و الأمن من شقائه و هو في ذلك متعلق بذيل الأسباب، و ما من سبب إلا و هو غالب في جهة و مغلوب من أخرى إلا الله سبحانه فهو الغالب غير المغلوب الغني ذو الرحمة فبذكره أي به سبحانه وحده تطمئن القلوب و لا يطمئن القلب إلى شيء غيره إلا غفلة عن حقيقة حاله و لو ذكر بها أخذته الرعدة و القلق.

و مما قيل في الآية الكريمة أعني قوله: "الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله" إلخ إنها استئناف، و قوله: "الذين آمنوا" مبتدأ خبره قوله في الآية التالية: "طوبى لهم و حسن مآب" و قوله: "الذين آمنوا و عملوا الصالحات" بدل من المبتدإ و قوله: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" اعتراض بين المبتدإ و خبره، و هو تكلف بعيد من السياق.



قوله تعالى: "الذين آمنوا و عملوا الصالحات طوبى لهم و حسن مآب" طوبى على وزن فعلى بضم الفاء مؤنث أطيب فهي صفة لمحذوف و هو على ما يستفاد من السياق - الحياة أو المعيشة و ذلك أن النعمة كائنة ما كانت إنما تغتبط و تهنأ إذا طابت للإنسان و لا تطيب إلا إذا اطمأن القلب إليه و سكن و لم يضطرب و لا يوجد ذلك إلا لمن آمن بالله و عمل عملا صالحا فهو الذي يطمئن منه القلب و يطيب له العيش فإنه في أمن من الشر و الخسران و سلام مما يستقبله و يدركه و قد أوى إلى ركن لا ينهدم و استقر في ولاية الله لا يوجه إليه ربه إلا ما فيه سعادته إن أعطى شيئا فهو خير له و إن منع فهو خير له.

و قد قال في وصف طيب هذه الحياة: "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون": النحل: 97 و قال في صفة من لم يرزق اطمئنان القلب بذكر الله: "و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى": طه: 124، و لعل وصف الحياة أو المعيشة في الآية التي نحن فيها بزيادة الطيب تلميحا إلى أنها نعمة لا تخلو من طيب على أي حال إلا أنها فيمن اطمأن قلبه بذكر الله أكثر طيبا لخلوصها من شوائب المنغصات.

فقوله: "طوبى لهم" في تقدير لهم حياة أو معيشة طوبى، فطوبى مبتدأ و "لهم" خبره و إنما قدم المبتدأ المنكر على الظرف لأن الكلام واقع موقع التهنئة و في مثله يقدم ما به التهنئة استعجالا بذكر ما يسر السامع ذكره نظير قولهم في البشارة: بشرى لك.

و بالجملة في الآية تهنئة الذين آمنوا و عملوا الصالحات - و هم الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله اطمئنانا مستمرا - بأطيب الحياة أو العيش و حسن المرجع، و بذلك يظهر اتصالها بما قبلها فإن طيب العيش من آثار اطمئنان القلب كما تقدم.

و قال في مجمع البيان،: "طوبى لهم" و فيه أقوال: أحدها: أن معناه فرح لهم و قرة عين.

عن ابن عباس.

و الثاني: غبطة لهم.

عن الضحاك.

و الثالث: خير لهم و كرامة.

عن إبراهيم النخعي.

و الرابع: الجنة لهم.

عن مجاهد.

و الخامس: معناه العيش المطيب لهم.

عن الزجاج، و الحال المستطابة لهم، عن ابن الأنباري لأنه فعلى من الطيب، و قيل: أطيب الأشياء لهم و هو الجنة.

عن الجبائي.

و السادس: هنيئا يطيب العيش لهم.

و السابع: حسنى لهم.

عن قتادة.

و الثامن: نعم ما لهم.

عن عكرمة.

التاسع: طوبى لهم دوام الخير لهم.

العاشر: أن طوبى شجرة في الجنة أصلها في دار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في دار كل مؤمن منها غصن عن عبيد بن عمير و وهب و أبي هريرة و شهر بن حوشب و روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.

انتهى موضع الحاجة.

و أكثر هذه المعاني من باب الانطباق و هي خارجة عن دلالة اللفظ.

قوله تعالى: "كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم" إلى آخر الآية متاب مصدر ميمي للتوبة و هي الرجوع، و الإشارة بقوله: "كذلك" إلى ما ذكره تعالى من سنته الجارية من دعوة الأمم إلى دين التوحيد ثم إضلال من يشاء و هداية من يشاء على وفق نظام الرجوع إلى الله و الإيمان به و سكون القلب بذكره و عدم الرجوع إليه.

و المعنى: و أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم إرسالا يماثل هذه السنة الجارية و يجري في أمره على وفق هذا النظام لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك و تبلغهم ما يتضمنه هذا الكتاب و هم يكفرون، بالرحمن و إنما قيل بالرحمن، دون أن يقال: "بنا" على ما يقتضيه ظاهر السياق إيماء إلى أنهم في ردهم هذا الوحي الذي يتلوه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم و هو القرآن و عدم اعتنائهم بأمره حيث يقولون مع نزوله: "لو لا أنزل عليه آية من ربه" يكفرون برحمة إلهية عامة تضمن لهم سعادة دنياهم و أخراهم لو أخذوه و عملوا به.



ثم أمر تعالى: أن يصرح لهم القول في التوحيد فقال: "قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت و إليه متاب" أي هو وحده ربي من غير شريك كما تقولون و لربوبية لي وحده أتخذه القائم على جميع أموري و بها، و أرجع إليه في حوائجي و بذلك يظهر أن قوله: "عليه توكلت و إليه متاب" من آثار الربوبية المتفرعة عليها فإن الرب هو المالك المدبر فمحصل المعنى هو وكيلي و إليه أرجع.

و قيل: إن المراد بالمتاب هو التوبة من الذنوب لما في المعنى الأول من لزوم كون "إليه متاب" تأكيدا لقوله: "عليه توكلت" و هو خلاف ظاهر.

و فيه منع رجوعه إلى التأكيد ثم منع كونه خلاف الظاهر و هو ظاهر.

و ذكر بعضهم: أن المعنى إليه متابي و متابكم.

و فيه أنه مستلزم لحذف و تقدير لا دليل عليه و مجرد كون مرجعهم إليه في الواقع لا يوجب التقدير من غير أن يكون في الكلام ما يوجب ذلك.

قوله تعالى: "و لو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا" المراد بتسيير الجبال قلعها من أصولها و إذهابها من مكان إلى مكان و بتقطيع الأرض شقها و جعلها قطعة قطعة، و بتكليم الموتى إحياؤهم لاستخبارهم عما جرى عليهم بعد الموت ليستدل على حقية الدار الآخرة فإن هذا هو الذي كانوا يقترحونه.

فهذه أمور عظيمة خارقة للعادة فرضت آثارا لقرآن فرضه الله سبحانه بقوله: "و لو أن قرآنا" إلخ، و جزاء لو محذوف لدلالة الكلام عليه فإن الكلام معقب بقوله: "بل لله الأمر جميعا" و الآيات - كما عرفت - مسوقة لبيان أن أمر الهداية ليس براجع إلى الآية التي يقترحونها بقولهم: "لو لا أنزل عليه آية" بل الأمر إلى الله يضل من يشاء كما أضلهم و يهدي إليه من أناب.

و على هذا يجري سياق الآيات كقوله تعالى بعد: "بل زين للذين كفروا مكرهم و صدوا عن السبيل و من يضلل الله فما له من هاد"، و قوله: "و كذلك أنزلناه حكما عربيا و لئن اتبعت أهواءهم" الآية، و قوله: "و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله" الآية إلى غير ذلك، و على مثله جرى سياق الآيات السابقة.

فجزاء لو المحذوف هو نحو من قولنا: ما كان لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله و المعنى و لو فرض أن قرآنا من شأنه أنه تسير به الجبال أو تقطع به الأرض أو يحيا به الموتى فتكلم ما كان لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله بل الأمر كله لله ليس شيء منه لغيره حتى يتوهم متوهم أنه لو أنزلت آية عظيمة هائلة مدهشة أمكنها أن تهديهم لا بل الأمر لله جميعا و الهداية راجعة إلى مشيته.

و على هذا فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى: "و لو أننا نزلنا إليهم الملائكة و كلمهم الموتى و حشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله": الأنعام: 111.

و ما قيل: إن جزاء لو المحذوف نحو من قولنا: لكان ذلك هذا القرآن، و المراد بيان عظم شأن القرآن و بلوغه الغاية القصوى في قوة البيان و نفوذ الأمر و جهالة الكفار حيث أعرضوا عنه و اقترحوا آية غيره.

و المعنى: أن القرآن في رفعة القدر و عظمة الشأن بحيث لو فرض أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى - أو في الموضعين لمنع الخلو لا لمنع الجمع - لكان ذلك هذا القرآن لكن الله لم ينزل قرآنا كذلك فالآية بوجه نظيرة قوله: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله": الحشر: 21.



و فيه أن سياق الآيات كما عرفت لا يساعد على هذا التقدير و لا يلائمه قوله بعده: "بل لله الأمر جميعا" و كذا قوله بعده: "أ فلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا" كما سنشير إليه إن شاء الله و لذلك تكلفوا في قوله: "بل لله الأمر جميعا" بما لا يخلو عن تكلف.

فقيل: إن المعنى لو أن قرآنا فعل به ذلك لكان هو هذا القرآن و لكن لم يفعل الله سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الآن لأن الأمر كله له وحده.

و قيل: إن حاصل الإضراب أنه لا تكون هذه الأمور العظيمة الخارقة بقرآن بل تكون بغيره مما أراده الله فإن جميع الأمر له تعالى وحده.

و قيل: إن الأحسن أن يكون قوله: "بل لله الأمر جميعا.

معطوفا على محذوف و التقدير: ليس لك من الأمر شيء بل الأمر لله جميعا.

و أنت ترى أن السياق لا يساعد على شيء من هذه المعاني، و أن حق المعنى الذي يساعد عليه السياق أن يكون إضرابا عن نفس الشرطية السابقة على تقدير الجزاء نحوا من قولنا: لم يكن لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله.

قوله تعالى: "أ فلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا" تفريع على سابقه.

ذكر بعضهم أن اليأس بمعنى العلم و هي لغة هوازن و قيل لغة حي من النخع و أنشدوا على ذلك قول سحيم بن وثيل الرباحي: أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني.

أ لم تيأسوا أني ابن فارس زهدم.

و قول رباح بن عدي: أ لم ييأس الأقوام أني أنا ابنه.

و إن كنت عن أرض العشيرة نائيا.

و محصل التفريع على هذا أنه إذا كانت الأسباب لا تملك من هدايتهم شيئا حتى قرآن سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى و أن الأمر لله جميعا فمن الواجب أن يعلم الذين آمنوا أن الله لم يشأ هداية الذين كفروا لو يشاء الله لهدى الناس جميعا الذين آمنوا و الذين كفروا لكنه لم يهد الذين كفروا فلم يهتدوا و لن يهتدوا.

و ذكر بعضهم أن اليأس بمعناه المعروف و هو القنوط غير أن قوله: "أ فلم ييأس" مضمن معنى العلم و المراد بيان لزوم علمهم بأن الله لم يشأ هدايتهم و لو شاء ذلك لهدى الناس جميعا و لزوم قنوطهم عن اهتدائهم و إيمانهم.

فتقدير الكلام بحسب الحقيقة: أ فلم يعلم الذين آمنوا أن الله لم يشأ هدايتهم و لو يشاء لهدى الناس جميعا أ و لم ييأسوا من اهتدائهم و إيمانهم؟ ثم ضمن اليأس معنى العلم و نسب إليه من متعلق العلم الجملة الشرطية فقط أعني قوله: "لو يشاء الله لهدى الناس جميعا" إيجازا و إيثارا للاختصار.

و ذكر بعضهم: أن قوله "أ فلم ييأس" على ظاهر معناه من غير تضمين و قوله: "أن لو يشاء الله" إلخ، متعلق بقوله: "آمنوا" بتقدير الباء و متعلق "ييأس" محذوف و تقدير الكلام أ فلم ييأس الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من إيمانهم و ذلك أن الذين آمنوا يرون أن الأمر لله جميعا و يؤمنون بأنه تعالى لو يشاء لهدى الناس جميعا و لو لم يشأ لم يهد فإذ لم يهد و لم يؤمنوا فليعلموا أنه لم يشأ و ليس في مقدره سبب من الأسباب أن يهديهم و يوفقهم للإيمان فلييأسوا من إيمانهم.



و هذه وجوه ثلاثة لعل أعدلها أوسطها و الآية على أي حال لا تخلو من إشارة إلى أن المؤمنين كانوا يودون أن يؤمن الكفار و لعلهم لمودتهم ذلك لما سمعوا قول الكفار: "لو لا أنزل عليه آية من ربه" طمعوا في إيمانهم و رجوا منهم الاهتداء إن أنزل الله عليهم آية أخرى غير القرآن فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم على ذلك فأيأسهم الله من إيمانهم في هذه الآيات، و في آيات أخرى من كلامه مكية و مدنية كقوله في سورة يس و هي مكية: "و سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون": آية 10، و قوله في سورة البقرة و هي مدنية: "إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون": آية 6.

قوله تعالى: "و لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد" سياق الآيات يشهد أن المراد بقوله: "بما صنعوا" كفرهم بالرحمن قبال الدعوة الحقة، و القارعة هي المصيبة تقرع الإنسان قرعا كأنها تؤذنه بأشد من نفسها و في الآية تهديد و وعيد قطعي للذين كفروا بعذاب غير مردود و ذكر علائم و أشراط له تقرعهم مرة بعد مرة حتى يأتيهم العذاب الموعود.

و المعنى: و لا يزال هؤلاء الذين كفروا بدعوتك الحقة تصيبهم بما صنعوا من الكفر بالرحمن مصيبة قارعة أو تحل تلك المصيبة القارعة قريبا من دارهم فلا يزالون كذلك حتى يأتي ما وعدهم الله من العذاب لأن الله لا يخلف ميعاده و لا يبدل قوله.

و التأمل في كون السورة مكية على ما يشهد به مضامين آياتها ثم في الحوادث الواقعة بعد البعثة و قبل الهجرة و بعدها إلى فتح مكة يعطي أن المراد بالذين كفروا هم كفار العرب من أهل مكة و غيرهم الذين ردوا أول الدعوة و بالغوا في الجحود و العناد و ألحوا على الفتنة و الفساد.

و المراد بالذين تصيبهم القارعة من كان في خارج الحرم منهم تصيبهم قوارع الحروب و شن الغارات، و بالذين تحل القارعة قريبا من دارهم أهل الحرم من قريش تقع حوادث السوء قريبا من دارهم فتصيبهم معرتها و تنالهم وحشتها و همها و سائر آثارها السيئة، و المراد بما وعدهم عذاب السيف الذي أخذهم في غزوة بدر و غيرها.

و اعلم أن هذا العذاب الموعود للذين كفروا في هذه الآيات غير العذاب الموعود المتقدم في سورة يونس في قوله تعالى: "و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون - إلى قوله ثانيا - و قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون": يونس: 47 - 54 فإن الذي في سورة يونس وعيد عام للأمة، و الذي في هذه الآيات وعيد خاص بالذين كفروا في أول الدعوة النبوية من قريش و غيرهم، و قد تقدم في قوله: "إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون": البقرة: 6 في الجزء الأول من الكتاب أن المراد بقوله: "الذين كفروا" في القرآن إذا أطلق إطلاقا المعاندون من مشركي العرب في أول الدعوة كما أن المراد بالذين آمنوا إذا أطلق كذلك السابقون إلى الإيمان في أول الدعوة.

و اعلم أيضا أن للمفسرين في الآية أقوالا شتى تركنا إيرادها إذ لا طائل تحت أكثرها و فيما ذكرناه من الوجه كفاية للباحث المتدبر، و سيوافيك بعضها في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

قوله تعالى: "و لقد استهزىء برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب" تأكيد لما في الآية السابقة من الوعيد القطعي ببيان نظائر له تدل على إمكان وقوعه أي لا يتوهمن متوهم أن هذا الذي نهددهم به وعيد خال لا دليل على وقوعه كما قالوا: "لقد وعدنا هذا نحن و آباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين": النمل: 68.



و ذلك أنه قد استهزىء برسل من قبلك بالكفر و طلب الآيات كما كفر هؤلاء بدعوتك ثم اقترحوا عليك آية مع وجود آية القرآن فأمليت و أمهلت للذين كفروا ثم أخذتهم بالعذاب فكيف كان عقابي؟ أ كان وعيدا خاليا لا شيء وراءه؟ أم كان أمرا يمكنهم أن يتقوه أو يدفعوه أو يتحملوه؟ فإذا كان ذلك قد وقع بهم فليحذر هؤلاء و فعالهم كفعالهم أن يقع مثله بهم.

و من ذلك يظهر أن قولهم: إن الآية تسلية و تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير محله.

و قد بدل الاستهزاء في الآية ثانيا من الكفر إذ قيل: "للذين كفروا" و لم يقل بالذين استهزءوا للدلالة على أن استهزاءهم كان استهزاء كفر كما أن كفرهم كان كفر استهزاء فهم الكافرون المستهزءون بآيات الله كالذين كفروا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قالوا مستهزئين بالقرآن و هو آية: لو لا أنزل عليه آية من ربه.

قوله تعالى: "أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت و جعلوا لله شركاء" القائم على شيء هو المهيمن المتسلط عليه و القائم بشيء من الأمر هو الذي يدبره نوعا من التدبير و الله سبحانه هو القائم على كل نفس بما كسبت أما قيامه عليها فلأنه محيط بذاتها قاهر عليها شاهد لها، و أما قيامه بما كسبت فلأنه يدبر أمر أعمالها فيحولها من مرتبة الحركة و السكون إلى أعمال محفوظة عليها في صحائف الأعمال ثم يحولها إلى المثوبات و العقوبات في الدنيا و الآخرة من قرب و بعد و هدى و ضلال و نعمة و نقمة و جنة و نار.

و الآية متفرعة على ما تقدمها أي إذا كان الله سبحانه يهدي من يشاء فيجازيه بأحسن الثواب و يضل من يشاء فيجازيه بأشد العقاب و له الأمر جميعا فهو قائم على كل نفس بما كسبت و مهيمن مدبر لنظام الأعمال فهل يعدله غيره حتى يشاركه في ألوهيته؟.

و من ذلك يظهر أن الخبر في قوله: "أ فمن هو قائم" إلخ، محذوف يدل عليه قوله: "و جعلوا لله شركاء" و من سخيف القول ما نسب إلى الضحاك أن المراد بقوله: "أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" الملائكة لكونهم موكلين على الأعمال و المعنى أ فيكون الملائكة الموكلون على الأعمال بأمره شركاء له سبحانه؟ و هو معنى بعيد من السياق غايته.

قوله تعالى: "قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول" لما ذكر سبحانه قوله: "و جعلوا لله شركاء" عاد إليهم ببيان يبطل به قولهم ذلك مأخوذ من البيان السابق بوجه.

فأمر نبيه بأن يحاجهم بنوع من الحجاج عجيب في بابه فقال: "قل سموهم" أي صفوهم فإن صفات الأشياء هي التي تتعين بها شئونها و آثارها فلو كانت هذه الأصنام شركاء لله شفعاء عنده وجب أن يكون لها من الصفات ما يسوي لها الطريق لهذا الشأن كما يقال فيه تعالى إنه حي عليم قدير خالق مالك مدبر فهو رب كل شيء لكن الأصنام إذا ذكرت فقيل: هبل أو اللات أو العزى لم يوجد لها من الصفات ما يظهر به أنها شريكة لله شفيعة عنده.



ثم قال: "أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض" و أم منقطعة أي بل أ تنبئونه بكذا و المعنى أن اتخاذكم الأصنام شركاء له إنباء له في الحقيقة بما لا يعلم فلو كان له شريك في الأرض لعلم به لأن الشريك في التدبير يمتنع أن يخفى تأثيره في التدبير على شريكه و الله سبحانه يدبر الأمر كله و لا يرى لغيره أثرا في ذلك لا موافقا و لا مخالفا، و الدليل على أنه لا يرى لنفسه شريكا في الأمر أنه تعالى هو القائم على كل نفس بما كسبت، و بعبارة أخرى أن له الخلق و الأمر و هو على كل شيء شهيد بالبرهان الذي لا سبيل للشك إليه، و الآية بالجملة كقوله في موضع آخر: "قل أ تنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات و لا في الأرض": يونس: 18.

ثم قال: "أم بظاهر من القول" أي بل أ تنبئونه بأن له شركاء بظاهر من القول من غير حقيقة و هذا كقوله: "إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم": النجم: 23.

و عن بعضهم أن المراد بظاهر من القول ظاهر كتاب نازل من الله تسمى فيه الأصنام آلهة حقة و حاصل الآية نفي الدليل العقلي و السمعي معا على ألوهيتها و كونها شركاء لله سبحانه و هو بعيد من اللفظ.

و وجه الارتباط بين هذه الحجج الثلاث أنهم في عبادتهم الأصنام و جعلهم لله شركاء مترددون بين محاذير ثلاثة إما أن يقولوا بشركتها من غير حجة إذ ليس لها من الأوصاف ما يعلم به أنها شركاء لله، و إما أن يدعوا أن لها أوصافا كذلك هم يعلمونها و لا يعلم بها الله سبحانه، و إما أن يكونوا متظاهرين بالقول بشركتها من غير حقيقة و هم يغرون الله بذلك تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

قال الزمخشري في الكشاف،: و هذا الاحتجاج و أساليبه العجيبة التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق ذلق أنه ليس من كلام البشر لمن عرف و أنصف على نفسه انتهى كلامه.

قوله تعالى: "بل زين للذين كفروا مكرهم و صدوا عن السبيل و من يضلل الله فما له من هاد" إضراب عن الحجج المذكورة و لوازمها و المعنى دع هذه الحجج فإنهم لا يجعلون له شركاء لشيء من هذه الوجوه بل مكر زينه لهم الشيطان و صدهم بذلك عن سبيل الله تعالى و ذلك أنهم على علم بأنه لا حجة على شركتها و أن مجرد الدعوى لا ينفعهم لكنهم يريدون بترويج القول بألوهيتها و توجيه قلوب العامة إليها عرض الدنيا و زينتها، و دعوتك إلى سبيل الله مانعة دون ذلك فهم في تصلبهم في عبادتها و دعوة الناس إليها و الحث على الأخذ بها يمكرون بك من وجه و بالناس من وجه آخر و قد زين لهم هذا المكر و هو السبب في جعلهم إياها شركاء لا غير ذلك من حجة أو غيرها و صدوا بذلك عن السبيل.

فهم زين لهم المكر و صدوا به عن السبيل و الذي زين لهم و صدهم هو الشيطان بإغوائهم، و أضلوا و الذي أضلهم هو الله سبحانه بإمساك نعمة الهدى منهم و من يضلل الله فما له من هاد.

قوله تعالى: "لهم عذاب في الحياة الدنيا و لعذاب الآخرة أشق و ما لهم من الله من واق" أشق أفعل من المشقة و واق اسم فاعل من الوقاية بمعنى الحفظ.

و في الآية إيجاز القول فيما وعد الله الذين كفروا من العذاب في الآيات السابقة، و في قوله: "و ما لهم من الله من واق" نفي الشفاعة و تأثيرها في حقهم أصلا، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "مثل الجنة التي وعد المتقون أكلها دائم و ظلها تلك عقبى الذين اتقوا و عقبى الكافرين النار" المثل هو الوصف يمثل الشيء.

و في قوله: "مثل الجنة" إلخ بيان ما خص الله به المتقين من الوعد الجميل مقابلة لما أوعد به الذين كفروا و ليكون تمهيدا لما يختم به القول من الإشارة إلى محصل سعي الفريقين في مسيرهم إلى ربهم و رجوعهم إليه و قد قابل الذين كفروا بالمتقين إشارة إلى أن الذين ينالون هذه العاقبة الحسنى هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات دون المؤمنين من غير عمل صالح فإنهم مؤمنون بالله كافرون بآياته.



و من لطيف الإشارة في الكلام المقابلة بين المؤمنين و المشركين أولا بتعبير "المتقون و الذين كفروا" و أخيرا بقوله "الذين اتقوا و الكافرون" و لعل فيه تلويحا إلى أن الفعل الماضي و الصفة هاهنا واحد مدلولا و مجموع أعمالهم في الدنيا مأخوذ عملا واحدا، و لازم ذلك أن يكون تحقق العمل و صدور الفعل مرة واحدة عين اتصافهم به مستمرا، و يفيد حينئذ قولنا: "الكافرون و المتقون" الدالان على ثبوت الاتصاف و قولنا: "الذين كفروا و الذين اتقوا" الدالان على تحقق ما للفعل مفادا واحدا، و هو قصر الموصوف على صفته، و أما من تبدل عليه العمل كأن تحقق منه كفر أو تقوى ثم تبدل بغيره و لم يختتم له العمل بعد فهو خارج عن مساق الكلام فافهم ذلك.

و اعلم أن في الآيات السابقة وجوها مختلفة من الالتفات كقوله: "كذلك أرسلناك" ثم قوله: "بل لله الأمر" ثم قوله: "فأمليت للذين كفروا" ثم قوله "و جعلوا لله شركاء" و الوجه فيه غير خفي فالتعبير بمثل "أرسلناك" للدلالة على أن هناك وسائط كملائكة الوحي مثلا.

و التعبير بمثل "بل لله الأمر جميعا" للدلالة على رجوع كل أمر ذي وسط أو غير ذي وسط إلى مقام الألوهية القيوم على كل شيء، و التعبير بمثل "فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم" للدلالة على أنه لا واسطة في الحقيقة يكون شريكا أو شفيعا كما يدعيه المشركون.

ثم قوله تعالى: "تلك عقبى الذين اتقوا و عقبى الكافرين النار" إشارة إلى خاتمة أمر الفريقين و عقباهما كما تقدم - و به يختتم البحث في المؤمنين و المشركين من حيث آثار الحق و الباطل في عقيدتهما و أعمالهما، فقد عرفت أن هذه الآيات التسع التي نحن فيها من تمام الآيات العشر السابقة المبتدئة بقوله: "أنزل من السماء ماء" الآية.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن خالد بن نجيح عن جعفر بن محمد (عليهما السلام): في قوله: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" فقال بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) تطمئن القلوب و هو ذكر الله و حجابه.

أقول: و في كلامه تعالى: "قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا".

و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه حين نزلت هذه الآية: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" أ تدرون ما معنى ذلك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: من أحب الله و رسوله و أحب أصحابي.

و في تفسير العياشي، عن ابن عباس: أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله - ألا بذكر الله تطمئن القلوب" ثم قال لي: أ تدري يا بن أم سليم من هم؟ قلت: من هم يا رسول الله؟ قال: نحن أهل البيت و شيعتنا.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزلت هذه الآية "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" قال: ذاك من أحب الله و رسوله و أحب أهل بيتي صادقا غير كاذب و أحب المؤمنين شاهدا و غائبا ألا بذكر الله يتحابون.

أقول: و الروايات جميعا من باب الانطباق و الجري فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الطاهرون من أهل بيته و الخيار من الصحابة و المؤمنين من مصاديق ذكر الله لأن الله يذكر بهم، و الآية الكريمة أعم دلالة.

و في تفسير القمي، عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث الإسراء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: فإذا شجرة لو أرسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة سنة و ليس في الجنة منزل إلا و فيه غصن منها فقلت: ما هذه يا جبرئيل؟ فقال: هذه شجرة طوبى قال الله تعالى: "طوبى لهم و حسن مآب".

أقول: و هذا المعنى مروي في روايات كثيرة و في عدة منها: أن جبرئيل ناولني منها ثمرة فأكلتها فحول الله ذلك إلى ظهري فلما أن هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبلت فاطمة إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها.



و في كتاب الخرائج، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا فاطمة إن بشارة أتتني من ربي في أخي و ابن عمي أن الله عز و جل زوج عليا بفاطمة و أمر رضوان خازن الجنة فهز شجرة طوبى فحملت رقاعا بعدد محبي أهل بيتي فأنشأ ملائكة من نور و دفع إلى كل ملك خطا فإذا استوت القيامة بأهلها فلا تلقى الملائكة محبا لنا إلا دفعت إليه صكا فيه براءة من النار:. أقول: و في تفسير البرهان، عن المرفق بن أحمد في كتاب المناقب بإسناده عن بلال بن حمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مثله و روي هذا المعنى أيضا عن أم سلمة و سلمان الفارسي و علي بن أبي طالب: و فيها أن الله لما أن أشهد على تزوج فاطمة من علي بن أبي طالب ملائكته أمر شجرة طوبى أن ينثر حملها و ما فيها من الحلي و الحلل فنثرت الشجرة ما فيها و التقطته الملائكة و الحور العين لتهادينه و تفتخرن به إلى يوم القيامة و روي أيضا ما يقرب منه عن الرضا (عليه السلام).

و في المجمع، روى الثعلبي بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: طوبى شجرة أصلها في دار علي في الجنة و في دار كل مؤمن منها غصن. قال: و رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و في تفسير البرهان، عن تفسير الثعلبي يرفع الإسناد إلى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طوبى فقال: شجرة في الجنة أصلها في دار علي و فرعها على أهل الجنة فقالوا: يا رسول الله سألناك فقلت: أصلها في داري و فرعها على أهل الجنة فقال: داري و دار علي واحدة في الجنة بمكان واحد:. أقول: و رواه أيضا في المجمع، بإسناده عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بإسناده عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مثله.

أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة مروية من طرق الشيعة و أهل السنة، و الظاهر أن الروايات غير ناظرة إلى تفسير الآية، و إنما هي ناظرة إلى بطنها دون ظهرها فإن حقيقة المعيشة الطوبى هي ولاية الله سبحانه و علي (عليه السلام) صاحبها و أول فاتح لبابها من هذه الأمة و المؤمنون من أهل الولاية أتباعه و أشياعه، و داره (عليه السلام) في جنة النعيم و هي جنة الولاية و دار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واحدة لا اختلاف بينهما و لا تزاحم فافهم ذلك.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح: في قوله: "و هم يكفرون بالرحمن" قال: هذا لما كاتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا في الحديبية كتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: لا نكتب الرحمن و ما ندري ما الرحمن؟ و ما نكتب إلا باسمك اللهم فأنزل الله: "و هم يكفرون بالرحمن":. أقول: و رواه أيضا عن ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبي الشيخ عن قتادة و أنت تعلم أن الآيات على ما يعطيه سياقها مكية و صلح الحديبية من حوادث ما بعد الهجرة.

على أن سياق الآية وحدها أيضا لا يساعد على نزول جزء من أجزائها في قصة و تقطعه عن الباقي.



و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عطية العوفي قال: قالوا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان (عليه السلام) يقطع لقومه بالريح أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه فأنزل الله تعالى: "و لو أن قرآنا سيرت به الجبال" الآية إلى قوله: "أ فلم ييأس الذين آمنوا" قال: أ فلم يتبين الذين آمنوا. قالوا: هل تروي هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: عن سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

أقول: و فيما يقرب من هذا المضمون روايات أخرى.

و في تفسير القمي، قال: لو كان شيء من القرآن كذلك لكان هذا.

و في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن أبي زاهر أو غيره عن محمد بن حماد عن أخيه أحمد بن حماد عن إبراهيم عن أبيه عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) في حديث: و إن الله يقول في كتابه: "و لو أن قرآنا سيرت به الجبال - أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى" و قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال و تقطع به البلدان و يحيى به الموتى.

الحديث.

أقول: و الحديثان ضعيفان سندا.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن علي: أنه قرأ: "أ فلم يتبين الذين آمنوا":. أقول: و روي هذه القراءة أيضا عن ابن عباس.

و في المجمع،: قرأ علي (عليه السلام) و ابن عباس و علي بن الحسين (عليهما السلام) و زيد بن علي و جعفر بن محمد (عليهما السلام) و ابن أبي مليكة و الجحدري و أبو يزيد المدني: أ فلم يتبين و القراءة المشهورة: أ فلم ييأس.

و في تفسير القمي، قال و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "و لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة" و هي النقمة "أو تحل قريبا من دارهم" فتحل بقوم غيرهم فيرون ذلك و يسمعون به و الذين حلت بهم عصاة كفار مثلهم و لا يتعظ بعضهم ببعض و لا يزالون كذلك حتى يأتي وعد الله الذي وعد المؤمنين من النصر، و يخزي الله الكافرين.

13 سورة الرعد - 36 - 42

وَ الّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَب يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْك وَ مِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضهُ قُلْ إِنّمَا أُمِرْت أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَ لا أُشرِك بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَئَابِ (36) وَ كَذَلِك أَنزَلْنَهُ حُكْماً عَرَبِيّا وَ لَئنِ اتّبَعْت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَك مِنَ الْعِلْمِ مَا لَك مِنَ اللّهِ مِن وَلىٍّ وَ لا وَاقٍ (37) وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا رُسلاً مِّن قَبْلِك وَ جَعَلْنَا لهَُمْ أَزْوَجاً وَ ذُرِّيّةً وَ مَا كانَ لِرَسولٍ أَن يَأْتىَ بِئَايَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ لِكلِّ أَجَلٍ كتَابٌ (38) يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشاءُ وَ يُثْبِت وَ عِندَهُ أُمّ الْكتَبِ (39) وَ إِن مّا نُرِيَنّك بَعْض الّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّك فَإِنّمَا عَلَيْك الْبَلَغُ وَ عَلَيْنَا الحِْساب (40) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَأْتى الأَرْض نَنقُصهَا مِنْ أَطرَافِهَا وَ اللّهُ يحْكُمُ لا مُعَقِّب لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سرِيعُ الحِْسابِ (41) وَ قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَللّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِب كلّ نَفْسٍ وَ سيَعْلَمُ الْكُفّرُ لِمَنْ عُقْبى الدّارِ (42)

بيان

تتمة الآيات السابقة و تعقب قولهم: "لو لا أنزل عليه آية من ربه".

قوله تعالى: "و الذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك" إلى آخر الآية.

الظاهر أن المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود و النصارى أو هم و المجوس فإن هذا هو المعهود من إطلاقات القرآن و السورة مكية و قد أثبت التاريخ أن اليهود ما كانوا يعاندون النبوة العربية في أوائل البعثة و قبلها ذاك العناد الذي ساقتهم إليه حوادث ما بعد الهجرة و قد دخل جمع منهم في الإسلام أوائل الهجرة و شهدوا على نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كونه مبشرا به في كتبهم كما قال تعالى: "و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن و استكبرتم": الأحقاف: 10.

و أنه كان من النصارى يومئذ قوم على الحق من غير أن يعاندوا دعوة الإسلام كقوم من نصارى الحبشة على ما نقل من قصة هجرة الحبشة و جمع من غيرهم، و قد قال تعالى في أمثالهم: "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون": القصص: 52 و قال: "و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون": الأعراف: 159 و كذا كانت المجوس ينتظرون الفرج بظهور منج ينشر الحق و العدل و كانوا لا يعاندون الحق كما يعانده المشركون.

فالظاهر أن يكونوا هم المعنيون بالآية و خاصة المحقون من النصارى و هم القائلون بكون المسيح بشرا رسولا كالنجاشي و أصحابه، و يؤيده ما في ذيل الآية من قوله: "قل إنما أمرت أن أعبد الله و لا أشرك به إليه أدعوا" فإنه أنسب أن يخاطب به النصارى.

و قوله: "و من الأحزاب من ينكر بعضه" اللام للعهد أي و من أحزاب أهل الكتاب من ينكر بعض ما أنزل إليك و هو ما دل منه على التوحيد و نفي التثليث و سائر ما يخالف ما عند أهل الكتاب من المعارف و الأحكام المحرفة.

و قوله: "قل إنما أمرت أن أعبد الله و لا أشرك به" دليل على أن المراد من البعض الذي ينكرونه ما يرجع إلى التوحيد في العبادة أو الطاعة و قد أمره الله أن يخاطبهم بالموافقة عليه بقوله: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا أربابا من دون الله": آل عمران: 64.

ثم تمم الكلام بقوله: "إليه أدعوا و إليه مآب" أي مرجعي فكان أول الكلام مفصحا عن بغيته في نفسه و لغيره، و آخره عن سيرته أي أمرت لأعبد الله وحده في عملي و دعوتي، و على ذلك أسير بين الناس فلا أدعو إلا إليه و لا أرجع في أمر من أموري إلا إليه فذيل الآية في معنى قوله: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين": يوسف: 108.

و يمكن أن يكون المراد بقوله: "و إليه مآب" المعاد و يفيد حينئذ فائدة التعليل أي إليه أدعوه وحده لأن مآبي إليه وحده.

و قد فسر بعضهم الكتاب في الآية بالقرآن و الذين أوتوا الكتاب بأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأحزاب بالأعراب الذين تحزبوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أداروا عليه الدوائر من قريش و سائر القبائل.



و فيه أنه خلاف المعهود من إطلاق القرآن لفظة: "الذين أوتوا الكتاب" على أن ذلك يؤدي إلى كون الآية مشتملة على معنى مكرر.

و ربما ذكر بعضهم أن المراد بهم اليهود خاصة و الكتاب هو التوراة و المراد بإنكار بعض أحزابهم بعض القرآن و هو ما لا يوافق أحكامهم المحرفة مع أن الجميع ينكرون ما لا يوافق ما عندهم إنكاره من غير فرح و أما الباقون فكانوا فرحين و منكرين و قد أطالوا البحث عن ذلك.

و عن بعضهم: أن المراد بالموصول عامة المسلمين، و بالأحزاب اليهود و النصارى و المجوس، و عن بعضهم أن تقدير قوله: "و إليه مآب" و إليه مآبي و مآبكم.

و هذه أقوال لا دليل من اللفظ على شيء منها و لا جدوى في إطالة البحث عنها.

قوله تعالى "و كذلك أنزلناه حكما عربيا و لئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي و لا واق" الإشارة بقوله: "كذلك" إلى الكتاب المذكور في الآية السابقة و هو جنس الكتاب النازل على الأنبياء الماضين كالتوراة و الإنجيل.

و المراد بالحكم هو القضاء و العزيمة فإن ذلك هو شأن الكتاب النازل من السماء المشتمل على الشريعة كما قال: "و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه": البقرة: 212 فالكتاب حكم إلهي بوجه و حاكم بين الناس بوجه فهذا هو المراد بالحكم دون الحكمة كما قيل.

و قوله: "عربيا" صفة لحكم و إشارة إلى كون الكتاب بلسان عربي و هو لسانه (صلى الله عليه وآله وسلم) سنة الله التي قد خلت في عباده، قال تعالى: "و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه": إبراهيم: 4 و هذا - كما لا يخفى - من الشاهد على أن المراد بالمذكورين في الآية السابقة اليهود و النصارى، و أن هذه الآيات متعرضة لشأنهم كما كانت الآيات السابقة عليها متعرضة لشأن المشركين.

و على هذا فالمراد بقوله: "و لئن اتبعت أهواءهم" إلخ، النهي عن اتباع أهواء أهل الكتاب، و قد ذكر في القرآن من ذلك شيء كثير، و عمدة ذلك أنهم كانوا يقترحون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آية غير القرآن كما كان المشركون يقترحونها، و كانوا يطمعون أن يتبعهم فيما عندهم من الأحكام لإحالتهم النسخ في الأحكام، و هذان الأمران و لا سيما أولهما عمدة ما تتعرض له هذه الآيات.

و المعنى: و كما أنزلنا على الذين أوتوا الكتاب كتابهم أنزلنا هذا القرآن عليك بلسانك مشتملا على حكم أو حاكما بين الناس و لئن اتبعت أهواء أهل الكتاب فتمنيت أن ينزل عليك آية غير القرآن كما يقترحون أو داهنتهم و ملت إلى اتباع بعض ما عندهم من الأحكام المنسوخة أو المحرفة أخذناك بالعقوبة و ليس لك ولي يلي أمرك من دون الله و لا واق يقيك منه فالخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو المراد به دون الأمة كما ذكره بعضهم.

قوله تعالى: "و لقد أرسلنا رسلا من قبلك و جعلنا لهم أزواجا و ذرية و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب" لما نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اتباع أهوائهم فيما اقترحوا عليه من إنزال آية غير القرآن ذكره بحقيقة الحال التي تؤيسه من الطمع في ذلك و يعزم عليه أن يتوكل على الله و يرجع إليه الأمور.



و هو أن سنة الله الجارية في الرسل أن يكونوا بشرا جارين على السنة المألوفة بين الناس من غير أن يتعدوها فيملكوا شيئا مما يختص بالغيب كأن يكونوا ذا قوة غيبية فعالة لما تشاء قديرة على كل ما أرادت أو أريد منها حتى تأتي بكل آية شاءت إلا أن يأذن الله له فليس للرسول و هو بشر كسائرهم من الأمر شيء بل لله الأمر جميعا.

فهو الذي ينزل الآية إن شاء غير أنه سبحانه إنما ينزل من الآيات إذا اقتضته الحكمة الإلهية و ليست الأوقات مشتركة متساوية في الحكم و المصالح و إلا لبطلت الحكمة و اختل نظام الخليقة بل لكل وقت حكمة تناسبه و حكم يناسبه فلكل وقت آية تخصه.

و هذا هو الذي تشير إليه الآية فقوله: "و لقد أرسلنا رسلا من قبلك و جعلنا لهم أزواجا و ذرية" إشارة إلى السنة الجارية في الرسل من البشرية العادية، و قوله: "و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله" إشارة إلى حرمانهم من القدرة الغيبية المستقلة بكل ما أرادت إلا أن يمدهم الإذن الإلهي.

و قوله: "لكل أجل" أي وقت محدود "كتاب" أي حكم مقضي مكتوب يخصه إشارة إلى ما يلوح إليه استثناء الإذن و سنة الله الجارية فيه، و التقدير فالله سبحانه هو الذي ينزل ما شاء و يأذن فيما شاء لكنه لا ينزل و لا يأذن في كل آية في كل وقت فإن لكل وقت كتابا كتبه لا يجري فيه إلا ما فيه.

و مما تقدم يظهر أن ما ذكره بعضهم أن قوله: "لكل أجل كتاب" من باب القلب و أصله: لكل كتاب أجل أي إن لكل كتاب منزل من عند الله وقتا مخصوصا ينزل فيه و يعمل عليه فللتوراة وقت و للإنجيل وقت و للقرآن وقت.

وجه لا يعبأ به.

قوله تعالى: "يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب" محو الشيء هو إذهاب رسمه و أثره يقال: محوت الكتاب إذا أذهبت ما فيه من الخطوط و الرسوم قال تعالى: "و يمح الله الباطل و يحق الحق بكلماته": الشورى: 24 أي يذهب بآثار الباطل كما قال: "فأما الزبد فيذهب جفاء" و قال: "و جعلنا الليل و النهار آيتين فمحونا آية الليل و جعلنا آية النهار مبصرة": أسرى: 12 أي أذهبنا أثر الإبصار من الليل فالمحو قريب المعنى من النسخ يقال: نسخت الشمس الظل أي ذهبت بأثره و رسمه.

و قد قوبل المحو في الآية بالإثبات و هو إقرار الشيء في مستقره بحيث لا يتحرك و لا يضطرب يقال: أثبت الوتد في الأرض إذا ركزته فيها بحيث لا يتحرك و لا يخرج من مركزه فالمحو هو إزالة الشيء بعد ثبوته برسمه و يكثر استعماله في الكتاب.

و وقوع قوله: "يمحوا الله ما يشاء و يثبت" بعد قوله: "لكل أجل كتاب" و اتصاله به من جانب و بقوله: "و عنده أم الكتاب" من جانب ظاهر في أن المراد محو الكتب و إثباتها في الأوقات و الآجال فالكتاب الذي أثبته الله في الأجل الأول إن شاء محاه في الأجل الثاني و أثبت كتابا آخر فلا يزال يمحى كتاب و يثبت كتاب آخر.

و إذا اعتبرنا ما في الكتاب من آية و كل شيء آية صح أن يقال لا يزال يمحو آية و يثبت آية كما يشير إليه قوله: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها": البقرة: 106، و قوله: "و إذا بدلنا آية مكان آية" الآية: النحل: 101.



فقوله: "يمحوا الله ما يشاء و يثبت" على ما فيه من الإطلاق يفيد فائدة التعليل لقوله: "لكل أجل كتاب" و المعنى أن لكل وقت كتابا يخصه فيختلف فاختلاف الكتب باختلاف الأوقات و الآجال إنما ظهر من ناحية اختلاف التصرف الإلهي بمشيته لا من جهة اختلافها في أنفسها و من ذواتها بأن يتعين لكل أجل كتاب في نفسه لا يتغير عن وجهه بل الله سبحانه هو الذي يعين ذلك بتبديل كتاب مكان كتاب و محو كتاب و إثبات آخر.

و قوله: "و عنده أم الكتاب" أي أصله فإن الأم هي الأصل الذي ينشأ منه الشيء و يرجع إليه، و هو دفع للدخل و إبانة لحقيقة الأمر فإن اختلاف حال الكتاب المكتوب لأجل بالمحو و الإثبات أي تغير الحكم المكتوب و القول المقضي به حينا بعد حين ربما أوهم أن الأمور و القضايا ليس لها عند الله سبحانه صورة ثابتة و إنما يتبع حكمه العلل و العوامل الموجبة له من خارج كأحكامنا و قضايانا معاشر ذوي الشعور من الخلق أو أن حكمه جزافي لا تعين له في نفسه و لا مؤثر في تعينه من خارج كما ربما يتوهم أرباب العقول البسيطة أن الذي له ملك - بكسر اللام - مطلق و سلطنة مطلقة له أن يريد ما يشاء و يفعل ما يريد على حرية مطلقة من رعاية أي قيد و شرط و سلوك أي نظام أو لا نظام في عمله فلا صورة ثابتة لشيء من أفعاله و قضاياه عنده، و قد قال تعالى: "ما يبدل القول لدي": ق: 29، و قال: "و كل شيء عنده بمقدار": الرعد: 8 إلى غير ذلك من الآيات.

فدفع هذا الدخل بقوله: "و عنده أم الكتاب" أي أصل جنس الكتاب و الأمر الثابت الذي يرجع إليه هذه الكتب التي تمحى و تثبت بحسب الأوقات و الآجال و لو كان هو نفسه تقبل المحو و الإثبات لكان مثلها لا أصلا لها و لو لم يكن من أصله كان المحو و الإثبات في أفعاله تعالى إما تابعا لأمور خارجة تستوجب ذلك فكان تعالى مقهورا مغلوبا للعوامل و الأسباب الخارجية مثلنا و الله يحكم لا معقب لحكمه.

و إما غير تابع لشيء أصلا و هو الجزاف الذي يختل به نظام الخلقة و التدبير العام الواحد بربط الأشياء بعضها ببعض جلت عنه ساحته، قال تعالى: "و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق": الدخان: 39.

فالملخص من مضمون الآية أن لله سبحانه في كل وقت و أجل كتابا أي حكما و قضاء و أنه يمحو ما يشاء من هذه الكتب و الأحكام و الأقضية و يثبت ما يشاء أي يغير القضاء الثابت في وقت فيضع في الوقت الثاني مكانه قضاء آخر لكن عنده بالنسبة إلى كل وقت قضاء لا يتغير و لا يقبل المحو و الإثبات و هو الأصل الذي يرجع إليه الأقضية الآخر و تنشأ منه فيمحو و يثبت على حسب ما يقتضيه هو.

و يتبين بالآية أولا: أن حكم المحو و الإثبات عام لجميع الحوادث التي تداخله الآجال و الأوقات و هو جميع ما في السماوات و الأرض و ما بينهما، قال تعالى: "ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى": الأحقاف: 3.

و ذلك لإطلاق قوله: "يمحوا الله ما يشاء و يثبت" و اختصاص المورد بآيات النبوة لا يوجب تخصيص الآية لأن المورد لا يخصص.



و بذلك يظهر فساد قول بعضهم: إن ذلك في الأحكام و هو النسخ و قول ثان: إن ذلك في المباحات المثبتة في صحائف الأعمال يمحوها الله و يثبت مكانها طاعة أو معصية مما فيه الجزاء، و قول ثالث: إنه محو ذنوب المؤمنين فضلا و إثبات ذنوب للكفار عقوبة، و قول رابع: إنه في موارد يؤثر فيها الدعاء و الصدقة في المحن و المصائب و ضيق المعيشة و نحوها، و قول خامس: إن المحو إزالة الذنوب بالتوبة و الإثبات تبديل السيئات حسنات، و قول سادس: إنه محو ما شاء الله من القرون و الإثبات إنشاء قرون آخرين بعدهم، و قول سابع: إنه محو القمر و إثبات الشمس و هو محو آية الليل و جعل آية النهار مبصرة، و قول ثامن: إنه محو الدنيا و إثبات الآخرة، و قول تاسع: إن ذلك في الأرواح حالة النوم يقبضها الله فيرسل من يشاء منهم و يمسك من يشاء، و قول عاشر: إن ذلك في الآجال المكتوبة في ليلة القدر يمحو الله ما يشاء منها و يثبت ما يشاء.

فهذه و أمثالها أقوال لا دليل على تخصيص الآية الكريمة بها من جهة اللفظ البتة و للآية إطلاق لا ريب فيه ثم المشاهدة الضرورية تطابقه فإن ناموس التغير جار في جميع أرجاء العالم المشهود، و ما من شيء قيس إلى زمانين في وجوده إلا لاح التغير في ذاته و صفاته و أعماله، و في عين الحال إذا اعتبرت في نفسها و بحسب وقوعها وجدت ثابتة غير متغيرة فإن الشيء لا يتغير عما وقع عليه.

فللأشياء المشهودة جهتان جهة تغير يستتبع الموت و الحياة و الزوال و البقاء و أنواع الحيلولة و التبدل، و جهة ثبات لا تتغير عما هي عليها و هما إما نفس كتاب المحو و الإثبات و أم الكتاب، و إما أمران مترتبان على الكتابين و على أي حال تقبل الآية الصدق على هاتين الجهتين.

و ثانيا: أن لله سبحانه في كل شيء قضاء ثابتا لا يتغير و به يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن كل قضاء يقبل التغيير و استدل عليه بمتفرقات الروايات و الأدعية الدالة على ذلك و الآيات و الأخبار الدالة على أن الدعاء و الصدقة يدفعان سوء القضاء.

و فيه أن ذلك في القضاء غير المحتوم.

و ثالثا: أن القضاء ينقسم إلى قضاء متغير و غير متغير و ستستوفي تتمة البحث في الآية عن قريب إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "و إن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ و علينا الحساب" "إن ما" هو إن الشرطية و ما الزائدة للتأكيد و الدليل عليه دخول نون التأكيد في الفعل بعده.

و في الآية إيضاح لما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الوظيفة و هو الاشتغال بأمر الإنذار و التبليغ فحسب فلا ينبغي له أن يتبع أهواءهم في نزول آية عليه كما اقترحوا حتى أنه لا ينبغي له أن ينتظر نتيجة بلاغه أو حلول ما أوعدهم الله من العذاب بهم.

و في الآية دلالة على أن الحساب الإلهي يجري في الدنيا كما يجري في الآخرة.

قوله تعالى: "أ و لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" إلخ كلام مسوق للعبرة بعد ما قدم إليهم الوعيد بالهلاك، و منه يعلم أن إتيان الأرض و نقصها من أطرافها كناية عن نقص أهلها بالإماتة و الإهلاك فالآية نظيرة قوله: "بل متعنا هؤلاء و آباءهم حتى طال عليهم العمر أ فلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أ فهم الغالبون": الأنبياء: 44.

و قول بعضهم إن المراد به أ و لم ير أهل مكة أنا نأتي أرضهم فننقصها من أطرافها بفتح القرى واحدة بعد واحدة للمسلمين فليخافوا أن نفتح بلدتهم و ننتقم منهم يدفعه أن السورة مكية و تلك الفتوحات إنما كانت تقع بعد الهجرة.

على أن الآيات بوعيدها ناظرة إلى هلاكهم بغزوة بدر و غيرها لا إلى فتح مكة.

و قوله: "و الله يحكم لا معقب لحكمه و هو سريع الحساب" يريد به أن الغلبة لله سبحانه فإنه يحكم و ليس قبال حكمه أحد يعقبه ليغلبه بالمنع و الرد و هو سبحانه يحاسب كل عمل بمجرد وقوعه بلا مهلة حتى يتصرف فيه غيره بالإخلال فقوله: "و الله يحكم" إلخ في معنى قوله في ذيل آية سورة الأنبياء المتقدمة: "أ فهم الغالبون".

قوله تعالى: "و قد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا" إلى آخر الآية.



أي و قد مكر الذين من قبلهم فلم ينفعهم مكرهم و لم يقدروا على صدنا من أن نأتي الأرض فننقصها من أطرافها فالله سبحانه يملك المكر كله و يبطله و يرده إلى أهله فليعتبروا.

و قوله: "يعلم ما تكسب كل نفس" في مقام التعليل لملكه تعالى كل مكر فإن المكر إنما يتم مع جهل الممكور به و أما إذا علم به فعنده بطلانه.

و قوله: "و سيعلم الكفار لمن عقبى الدار قطع للحجاج بدعوى أن مسألة انتهاء الأمور إلى عواقبها من الأمور الضرورية العينية لا تتخلف عن الوقوع و سيشهدونها شهود عيان فلا حاجة إلى الإطالة و الإطناب في إعلامهم ذلك فسيعلمون.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قالت قريش حين أنزل: "و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله": ما نراك يا محمد تملك من شيء و لقد فرغ من الأمر فأنزلت هذه الآية تخويفا لهم و وعيدا لهم "يمحوا الله ما يشاء و يثبت" إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا.

أقول: و الآية كما تقدم بيانه أجنبية عن هذا المعنى، و في ذيل هذا الحديث و يحدث الله في كل رمضان فيمحو الله ما يشاء و يثبت من أرزاق الناس و مصائبهم و ما يعطيهم و ما يقسم لهم، و في رواية أخرى عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في الآية: قال: يمحو من الرزق و يزيد فيه، و يمحو من الأجل و يزيد فيه.

و هذا من قبيل التمثيل و الآية أعم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قوله: "يمحوا الله ما يشاء و يثبت" قال: ذلك كل ليلة القدر يرفع و يخفض و يرزق غير الحياة و الموت و الشقاوة و السعادة فإن ذلك لا يزول.

أقول: و الرواية على معارضتها الروايات الكثيرة جدا المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و الصحابة تخالف إطلاق الآية و حجة العقل، و مثلها ما عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يمحو الله ما يشاء و يثبت إلا الشقوة و السعادة و الحياة و الموت و فيه، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر عن علي: أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية فقال له: لأقرن عينيك بتفسيرها و لأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها. الصدقة على وجهها و بر الوالدين و اصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة و يزيد في العمر و يقي مصارع السوء.

أقول: و الرواية لا تزيد على ذكر بعض مصاديق الآية.

و في الكافي، بإسناده عن هشام بن سالم و حفص بن البختري و غيرهما عن أبي عبد الله (عليه السلام): في هذه الآية: "يمحوا الله ما يشاء و يثبت" قال: فقال: و هل يمحى إلا ما كان ثابتا؟ و هل يثبت إلا ما لم يكن؟: أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن جميل عنه (عليه السلام).

و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار قال. سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من الأمور أمور محتومة كائنة لا محالة و من الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم فيها ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت منها ما يشاء لم يطلع على ذلك أحدا يعني الموقوفة فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه و لا نبيه و لا ملائكته.

أقول: و روي بطريق آخر و كذا في الكافي بإسناده عن الفضيل عنه (عليه السلام) ما في معناه.



و فيه، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: لو لا آية في كتاب الله لحدثتكم بما كان و بما يكون إلى يوم القيامة فقلت له. أية آية؟ فقال: قال الله: "يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب".

أقول: معناه أن اللائح من الآية أن الله سبحانه لا يريد من خلقه إلا أن يعيشوا على جهل بالحوادث المستقبلة ليقوموا بواجب حياتهم بهداية من الأسباب العادية و سياقة من الخوف و الرجاء، و ظهور الحوادث المستقبلة تمام ظهورها يفسد هذه الغاية الإلهية فهو سبب الكف عن التحديث لا الخوف من أن يكذبه الله بالبداء فإنه مأمون منه فلا تعارض بين الرواية و ما قبلها.

و فيه، عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى كتب كتابا فيه ما كان و ما هو كائن فوضعه بين يديه فما شاء منه قدم و ما شاء منه أخر و ما شاء منه محى و ما شاء منه كان و ما لم يشأ لم يكن.

و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله يقدم ما يشاء و يؤخر ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء و عنده أم الكتاب، و قال: كل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يضعه، و ليس شيء يبدو له إلا و قد كان في علمه أن الله لا يبدو له من جهل.

أقول: و الروايات في البداء عنهم (عليهم السلام) متكاثرة مستفيضة فلا يعبأ بما نقل عن بعضهم أنه خبر واحد.

و الرواية كما ترى تنفي البداء بمعنى علمه تعالى ثانيا بما كان جاهلا به أولا بمعنى تغير علمه في ذاته كما ربما يتفق فينا تعالى عن ذلك، و إنما هو ظهور أمر منه تعالى ثانيا بعد ما كان الظاهر منه خلافه أولا فهو محو الأول و إثبات الثاني و الله سبحانه عالم بهما جميعا.

و هذا مما لا يسع لذي لب إنكاره فإن للأمور و الحوادث وجودا بحسب ما تقتضيه أسبابها الناقصة من علة أو شرط أو مانع ربما تخلف عنه، و وجودا بحسب ما تقتضيه أسبابها و عللها التامة و هو ثابت غير موقوف و لا متخلف، و الكتابان أعني كتاب المحو و الإثبات و أم الكتاب إما أن يكونا أمرين تتبعهما هاتان المرحلتان من وجود الأشياء اللتان إحداهما تقبل المحو و الإثبات و الأخرى لا تقبل إلا الثبات.

و إما أن يكونا عين تينك المرحلتين، و على أي حال ظهور أمر أو إرادة منه تعالى بعد ما كان الظاهر خلافه واضح لا ينبغي الشك فيه.

و الذي أحسب أن النزاع في ثبوت البداء كما يظهر من أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و نفيه كما يظهر من غيرهم نزاع لفظي و لهذا لم نعقد لهذا البحث فصلا مستقلا على ما هو دأب الكتاب و من الدليل على كون النزاع لفظيا استدلالهم على نفي البداء عنه تعالى بأنه يستلزم التغير في علمه مع أنه لازم البداء بالمعنى الذي يفسر به البداء فينا لا البداء بالمعنى الذي يفسره به الأخبار فيه تعالى.

و في الدر المنثور، أخرج الحاكم عن أبي الدرداء: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ "يمحوا الله ما يشاء و يثبت" مخففة.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "ننقصها من أطرافها" قال: ذهاب العلماء.

و في المجمع، عن أبي عبد الله (عليه السلام): ننقصها بذهاب علمائها و فقهائها و أخيارها.



و في الكافي، بإسناده عن محمد بن علي عمن ذكره عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إنه ليسخي نفسي في سرعة الموت أو القتل فينا قول الله عز و جل: "أ و لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" فقال: فقد العلماء.

أقول: كأن المراد أنه يسخي نفسي أن الله تعالى نسب توفي العلماء إلى نفسه لا إلى غيره فيهنأ لي الموت أو القتل.

13 سورة الرعد - 43

وَ يَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا لَست مُرْسلاً قُلْ كفَى بِاللّهِ شهِيدَا بَيْنى وَ بَيْنَكمْ وَ مَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَبِ (43)

بيان

الآية خاتمة السورة و تعطف الكلام على ما في مفتتحها من قوله: "و الذي أنزل إليك من ربك الحق و لكن أكثر الناس لا يؤمنون" و هي كرة ثالثة على منكري حقية كتاب الله يستشهد فيها بأن الله يشهد على الرسالة و من حصل له العلم بهذا الكتاب يشهد بها.

قوله تعالى: "و يقول الذين كفروا لست مرسلا" إلخ بناء الكلام في السورة على إنكارهم حقية الكتاب و عدم عدهم إياه آية إلهية للرسالة و لذا كانوا يقترحون آية غيره كما حكاه الله تعالى في خلال الآيات مرة بعد مرة و أجاب عنه بما يرد عليهم قولهم فكأنهم لما يئسوا مما اقترحوا أنكروا أصل الرسالة لعدم إذعانهم بما أنزل الله من آية و عدم إجابتهم فيما اقترحوه من آية فكانوا يقولون: "لست مرسلا".

فلقن الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة عليهم لرسالته بقوله: "قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب" و هو حجة قاطعة و ليس بكلام خطابي و لا إحالة إلى ما لا طريق إلى حصول العلم به.

فقوله: "قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم" استشهاد بالله سبحانه و هو ولي أمر الإرسال و إنما هي شهادة تأدية لا شهادة تحمل فقط فإن أمثال قوله تعالى: "إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم" من آيات القرآن و كونه آية معجزة من الله ضروري، و كونه قولا و كلاما له سبحانه ضروري و اشتماله على تصديق الرسالة بدلالة المطابقة المعتمدة على علم ضروري أيضا ضروري، و لا نعني بشهادة التأدية إلا ذلك.

و من فسر شهادته تعالى من المفسرين بأنه تعالى قد أظهر على رسالتي من الأدلة و الحجج ما فيه غنى عن شهادة شاهد آخر ثم قال: و تسمية ذلك شهادة مع أنه فعل و هي قول من المجاز حيث إنه يغني غناها بل هو أقوى منها.

انتهي.

فقد قصد المطلوب من غير طريقه.

و ذلك أن الأدلة و الحجج الدالة على حقية رسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) إما القرآن و هو الآية المعجزة الخالدة، و إما غيره من الخوارق و المعجزات و آيات السورة - كما ترى - لا تجيب الكفار على ما اقترحوه من هذا القسم الثاني و لا معنى حينئذ للاستشهاد بما لم يجابوا عليه، و أما القرآن فمن البين أن الاستناد إليه من جهة أنه معجزة تصدق الرسالة بدلالتها عليها أي كلام له تعالى يشهد بالرسالة، و إذا كان كذلك فما معنى العدول عن كونه كلاما له تعالى يدل على حقية الرسالة أي شهادة لفظية منه تعالى على ذلك بحقيقة معنى الشهادة إلى كونه دليلا فعليا منه عليها سمي مجازا بالشهادة؟.

على أن كون فعله تعالى أقوى دلالة على ذلك من قوله ممنوع.

فقد تحصل أن معنى قوله: "الله شهيد بيني و بينكم" أن ما وقع في القرآن من تصديق الرسالة شهادة إلهية بذلك.

و أما جعل الشهادة شهادة تحمل ففيه إفساد المعنى من أصله و أي معنى لإرجاع أمر متنازع فيه إلى علم الله و اتخاذ ذلك حجة على الخصم و لا سبيل له إلى ما في علم الله في أمره؟ أ هو كما يقول أو فرية يفتريها على الله؟.

و قوله: "و من عنده علم الكتاب" أي و كفى بمن عنده علم الكتاب شهيدا بيني و بينكم، و قد ذكر بعضهم أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ و يتعين على هذا أن يكون المراد بالموصول هو الله سبحانه فكأنه قيل: كفى بالله الذي عنده علم الكتاب شهيدا "إلخ".

و فيه أولا أنه خلاف ظاهر العطف، و ثانيا أنه من عطف الذات مع صفته إلى نفس الذات و هو قبيح غير جائز في الفصيح و لذلك ترى الزمخشري لما نقل في الكشاف، هذا القول عن الحسن بقوله: و عن الحسن: "لا و الله ما يعني إلا الله" قال بعده: و المعنى كفى بالذي يستحق العبادة و بالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيدا بيني و بينكم.

انتهى فاحتال إلى تصحيحه بتبديل لفظة الجلالة "الله" من "الذي يستحق العبادة" و تبديل "من" من "الذي" ليعود المعطوف و المعطوف عليه وصفين فيكون في معنى عطف أحد وصفي الذات على الآخر و إناطة الحكم بالذات بما له من الوصفين كدخالتهما فيه فافهم ذلك.

لكن من المعلوم أن تبديل لفظ من لفظ يستقيم إفادته لمعنى لا يوجب استقامة ذلك في اللفظ الأول و إلا لبطلت أحكام الألفاظ.

على أن التأمل فيما تقدم في معنى هذه الشهادة و أن المراد به تصديق القرآن لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعطي أن وضع لفظة الجلالة في هذا الموضع لا للتلميح إلى معناه الوصفي بل لإسناده الشهادة إلى الذات المقدسة المستجمعة لجميع صفات الكمال لأن شهادته أكبر الشهادات قال سبحانه: "قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني و بينكم".

و ذكر آخرون: أن المراد بالكتاب التوراة و الإنجيل أو خصوص التوراة و المعنى و كفى بعلماء الكتاب شهداء بيني و بينكم لأنهم يعلمون بما بشر الله به الأنبياء في و يقرءون نعتي في الكتاب.

و فيه أن الذي أخذ في الآية هو الشهادة دون مجرد العلم، و السورة مكية و لم يؤمن أحد من علماء أهل الكتاب يومئذ كما قيل و لا شهد للرسالة بشيء فلا معنى للاحتجاج بالاستناد إلى شهادة لم يقم بها أحد بعد.

و قيل: المراد القوم الذين أسلموا من علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام و تميم الداري و الجارود و سلمان الفارسي، و قيل هو عبد الله بن سلام، و رد بأن السورة مكية و هؤلاء إنما أسلموا بالمدينة.

و للقائلين بأنه عبد الله بن سلام جهد بليغ في الدفاع عنه فقال بعضهم: إن مكية السورة لا تنافي كون بعض آياتها مدنية فلم لا يجوز أن تكون هذه الآية مدنية مع كون السورة مكية.

و فيه أولا: أن مجرد الجواز لا يثبت ذلك ما لم يكن هناك نقل صحيح قابل للتعويل عليه.

على أن الجمهور نصوا على أنها مكية كما نقل عن البحر.

و ثانيا: أن ذلك إنما هو في بعض الآيات الموضوعة في خلال آيات السور النازلة و أما في مثل هذه الآية التي هي ختام ناظرة إلى ما افتتحت به السورة فلا إذ لا معنى لإرجاء بعض الكلام المرتبط الأجزاء إلى أمد غير محدود.

و قال بعضهم: إن كون الآية مكية لا ينافي أن يكون الكلام إخبارا عما سيشهد به.

و فيه أن ذلك يوجب رداءة الحجة و سقوطها فأي معنى لأن يحتج على قوم يقولون: "لست مرسلا" فيقال: صدقوا به اليوم لأن بعض علماء أهل الكتاب سوف يشهدون به.

و قال بعضهم: إن هذه الشهادة شهادة تحمل لا يستلزم إيمان الشهيد حين الشهادة فيجوز أن تكون الآية مكية و المراد بها عبد الله بن سلام أو غيره من علماء اليهود و النصارى و إن لم يؤمنوا حين نزول الآية.

و فيه أن المعنى حينئذ يعود إلى الاحتجاج بعلم علماء أهل الكتاب و إن لم يعترفوا به و لم يؤمنوا، و لو كان كذلك لكان المتعين أن يستشهد بعلم الذين كفروا أنفسهم فإن الحجة كانت قد تمت عليهم بكون القرآن كلام الله و لا يكون ذلك إلا عن علمهم به فما الموجب للعدول عنهم إلى غيرهم و هم مشتركون في الكفر بالرسالة و نفيها على أنه تقدم أن الشهادة في الآية ليست إلا شهادة أداء دون التحمل.



و قال بعضهم: - و هو ابن تيمية و قد أغرب - أن الآية مدنية بالاتفاق.

و هو كما ترى.

و ذكر بعضهم: أن المراد بالكتاب القرآن الكريم، و المعنى أن من تحمل هذا الكتاب و تحقق بعلمه و اختص به فإنه يشهد على أنه من عند الله و أني مرسل به فيعود مختتم السورة إلى مفتتحها من قوله: "تلك آيات الكتاب و الذي أنزل إليك من ربك الحق و لكن أكثر الناس لا يؤمنون" و ينعطف آخرها على أولها و على ما في أواسطها من قوله: "أ فمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب".

و هذا في الحقيقة انتصار و تأييد منه تعالى لكتابه قبال ما أزرى به و استهانه الذين كفروا حيث قالوا: "لو لا أنزل عليه آية من ربه" مرة بعد مرة و "لست مرسلا" فلم يعبئوا بأمره و لم يبالوا به و أجاب الله عن قولهم مرة بعد مرة و لم يتعرض لأمر القرآن و لم يذكر أنه أعظم آية للرسالة و كان من الواجب ذلك فقوله: "قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب" استيفاء لهذا الغرض الواجب الذي لا يتم البيان دونه و هذا من أحسن الشواهد على ما تقدم أن الآية كسائر السورة مكية.

و بهذا يتأيد ما ذكره جمع و وردت به الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الآية نزلت في علي (عليه السلام) فلو انطبق قوله: "و من عنده علم الكتاب" على أحد ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ لكان هو فقد كان أعلم الأمة بكتاب الله و تكاثرت الروايات الصحيحة على ذلك و لو لم يرد فيه إلا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريق: "لن يفترقا حتى يردا علي الحوض" لكان فيه كفاية.

بحث روائي

في البصائر، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) يقول: في الآية: علي (عليه السلام):. أقول: و رواه أيضا بأسانيد عن جابر و بريد بن معاوية و فضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) و بإسناده عن عبد الله بن بكير و عبد الله بن كثير الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و بإسناده عن سلمان الفارسي عن علي (عليه السلام).

و في الكافي، بإسناده عن بريد بن معاوية: في الآية قال: إيانا عنى و علي أولنا و أفضلنا و خيرنا بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في المعاني، بإسناده عن خلف بن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قول الله جل ثناؤه: "قال الذي عنده علم من الكتاب" قال: ذاك وصي أخي سليمان بن داود فقلت له: يا رسول الله فقول الله: "قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب" قال ذاك أخي علي بن أبي طالب.

و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن عطاء قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): هذا ابن عبد الله بن سلام بن عمران يزعم أن أباه الذي يقول الله: "قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم - و من عنده علم الكتاب" قال: كذب، هو علي بن أبي طالب.

و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب قال: عن محمد بن مسلم و أبي حمزة الثمالي و جابر بن يزيد عن أبي جعفر (عليه السلام) و علي بن فضال و فضيل بن داود عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) و أحمد بن محمد الكلبي و محمد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) و قد روي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) و عن زيد بن علي و عن محمد بن الحنفية و عن سلمان الفارسي و عن أبي سعيد الخدري و إسماعيل السدي أنهم قالوا: في قوله تعالى: "قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب" هو علي بن أبي طالب (عليه السلام).

و في تفسير البرهان، عن الثعلبي في تفسيره بإسناده عن معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس و روي عن عبد الله بن عطاء عن أبي جعفر: أنه قيل له: زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام قال: لا ذلك علي بن أبي طالب.

و روي: أنه سئل سعيد بن جبير "و من عنده علم الكتاب" عبد الله بن سلام؟ قال: لا و كيف؟ و هذه السورة مكية:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه عن ابن جبير.

و في تفسير البرهان، أيضا عن الفقيه ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن علي بن عابس قال: دخلت أنا و أبو مريم على عبد الله بن عطاء قال يا أبا مريم حدث عليا بالحديث الذي حدثتني عن أبي جعفر. قال: كنت عند أبي جعفر جالسا إذ مر عليه ابن عبد الله بن سلام. قلت: جعلني الله فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب. قال: لا و لكنه صاحبكم علي بن أبي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله عز و جل: "و من عنده علم الكتاب" "أ فمن كان على بينة من ربه - و يتلوه شاهد منه" "إنما وليكم الله و رسوله" الآية.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير أن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: قال عبد الله بن سلام: قد أنزل الله في القرآن "قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب".

أقول: و روي ما في معناه عن ابن مردويه عن زيد بن أسلم عن أبيه و عن جندب، و قد عرفت حال الرواية فيما تقدم، و قد روي عن ابن المنذر عن الشعبي: ما نزل في عبد الله بن سلام شيء من القرآن.

تم و الحمد لله.

<<        الفهرس        >>