(الصفحة 61)
اعترف بأنّه لا مجال لنفي الخصوصية عن الطريق ، خصوصاً بعد ما أضفنا إليه من الإضافة إلى المسلمين ، وعدم اختصاص القاعدة بخصوصهم ، فهذان العنوانان المتحدان لا ينطبقان على المقام بوجه .
وأمّا العنوان الثاني ، فبعد عدم انطباقه بنفسه على المقام ، لابدّ في الحكم بالضمان من التوسّل إلى دعوى أنّه لا خصوصية لحفر البئر المذكور في دليله ، ولا مجال لهذه الدعوى . أمّا في صورة حفر البئر في الطريق ، فلما عرفت من أنّه لا وجه لإلغاء خصوصية الطريق . وأمّا في صورة حفر البئر في ملك الغير ; فلأ نّه لا وجه لإلغاء الخصوصية منه ; فإنّه لو فرض أن أوثق دابّته في ملك الغير فتحقّق بسببه تلف مال أو نفس ، هل يمكن الالتزام بالضمان فيه؟ فالإنصاف أنّ في الضمان في المقام تردّداً كما في الشرائع . الاّ أن يقال بعدم اختصاص كون العناوين المأخوذة في الروايات موضوعةً للحكم بالضمان بالعناوين الثلاثة المذكورة في كلام القائل ; فإنّه حكم فيها بضمان مثل شاهدي الزور أيضاً ، ويمكن أن يقال بأ نّه لا فرق بينهما وبين المقام ; فكما أنّ شهادتهما صارت موجبة لقتل المشهود عليه ، كذلك غصب الشاة مثلا صار سبباً لموت ولدها ، وعليه فيمكن استفادة الحكم بالضمان في المقام ممّا ورد في شاهدي الزور ، فتدبّر .
ومنها : ما قاله في الشرائع أيضاً : من أنّه لو فكّ القيد عن الدابّة فشردت ، أو عن العبد المجنون فأبق ; ضمن ; لأنّه فعل يُقصد به الإتلاف ، وكذا لو فتح قفصاً عن طائر فطار ، مبادراً أو بعد مكث(1) .
ولعلّ الوجه في الضمان فيه أولويته من الضمان في شاهدي الزور ; فإنّه قد تحقّق فيه مباشرة القتل بفعل فاعل مختارِ ، ولكن حكم فيه بضمان السبب ، وفي مثل المقام لم يتوسط بين فكّ القيد وفتح القفص فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار ، بل كان
- (1) شرائع الإسلام : 3 / 238 .
(الصفحة 62)
الفاعل حيواناً ، خصوصاً إذا كان وحشيّاً أو عبداً مجنوناً ، فالضمان في المقام أولى .
ومنها : ما في الشرائع أيضاً : من أنّه لو فتح باباً على مال فسرق ، أو أزال القيد عن عبد عاقل فأبق ، وكذا لو دلّ السارق على مال فسرق ، فلا ضمان في الجميع(1) . وحكى في الجواهر(2) عن العلاّمة في الإرشاد(3) القول بالضمان فيما لو دلّ السارق ، والظاهر أنّه لم يوافقه فيه أحد .
والوجه في عدم الضمان عدم استناد السرقة في المثالين ، وكذا الإباق ، إلاّ إلى الفاعل العاقل المباشر عن عمد واختيار ، ولا يستندان إلى الفاتح والدالّ ومزيل القيد بوجه ، فلا مجال للحكم بالضمان بالإضافة إليهم .
ثم إنّ في الشرائع(4) وكذا في الجواهر(5) فروعاً كثيرة اُخرى يظهر حكمها ممّا تقدّم ، هذا كلّه فيما إذا كان السّبب واحداً . وأمّا إذا كان السبب متعدّداً ، فإن كانا أو كانوا في عرض واحد من دون ترتّب وطوليّة ، ففي موارد الحكم بضمان السبب يشتركان أو يشتركوا في الضمان ، فإذا حفر جماعة بئراً في طريق المسلمين ، فوقع فيها دابّة مثلا ، يشتركون في ضمانها ، وإذا كان هناك ترتّب وتقدّم وتأخّر ، فمقتضى ثبوت الضمان على السبب ثبوته على أوّل السببين أو الأسباب ; لعين ما دلّ على ثبوته على أصل السّبب ، فلو حفر زيد بئراً في الطريق ، ووضع عمرو حجراً على حافّة تلك البئر ، فشردت دابّة بسبب ذلك الحجر ووقعت في البئر ، فالضمان على الحافر دون واضع الحجر ، كما لا يخفى .
هذا تمام الكلام في قاعدة الإتلاف.
- (1) شرائع الإسلام : 3 / 238 .
(2) جواهر الكلام : 37 / 68 .
(3) إرشاد الأذهان : 1 / 444 .
(4) شرائع الإسلام : 3 / 238 .
(5) جواهر الكلام : 37 / 69 ـ 71 .
(الصفحة 65)قاعدة إقرار العقلاء
ومن القواعد الفقهية المعروفة قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» والمراد هو الجواز الوضعي ; بمعنى النفوذ والمضيّ ، كما سيأتي التكلّم فيه إن شاء الله تعالى ، وفي هذه القاعدة جهات من البحث :
الجهة الاُولى : في مدركها ، وهو اُمور :
الأوّل : كونها من الأمارات الظنيّة القويّة التي بنى على حجيّتها العقلاء من الملل كافّة ، سيّـما القضاة والحكّام في جميع الأقطار والأمصار والأعصار ، ولم يردع عنها الشارع بل بنى على امضائها ، كما نشاهده في باب الحدود ، والديات ، والقصاص ، والقضاء وغيرها .
أمّا بناء العقلاء على الاعتماد على إقرار العاقل ، فلأنّه ـ بعد فرض كون المقرّ عاقلا ، والعاقل لا يصدر منه ما لا يجتمع مع العقل ـ لابدّ وأن يكون الوجه لإقراره إمّا بيان الواقع ; لانزجار نفسه عن الخلاف الذي صدر عنه ; كالسرقة والقتل والغصب وأمثاله ، أو تخفيف العذاب الاُخروي كالزنا وشبهه ، وقد وقع في بعض